«على الأقل، لقد حاولتُ!»: أحدهم طار فوق عش الوقواق/One Flew on Cukoo's Nest

«سلامة العقل و السعادة لا يجتمعان.» — مارك توين.

تدور أحداث هذا الفيلم « أحدهم طار فوق عش الوقواق » الذي يُعدّ واحدًا من أنجح وأشهر الأفلام الأمريكيّة بفترة السبعينيّات في مشفى للأمراض العقليّة. عارضت هوليوود لفترة طويلة عرض هذا النوع من الأفلام؛ لم يحدث في تاريخ هوليوود من قبل أن حقق فيلمٌ يحكي عن المرضى النفسيين أية أرباح. لكنّ ذلك لم يجعل المخرج التشيكيّ «ميلوش فورمان» يعدل عن قراره؛ فقام بإخراج رائعته السينمائيّة الرمزيّة المُستوحاة من الرواية الديستوبيّة للكاتب الأمريكيّ «كين كيسي»، التي تجسّد الضغوط النفسيّة الفرديّة التي يمارسها كلٌ من المجتمع والسلطة اللذيْن يستخدمان القوّة إزاء أيّ شخص يقوم باختراق النظام من أجل الحفاظ على المصلحة العامّة المزعومة. خلافـًا لتوقعات مُنتجي هوليوود، فإنّ أحداث الفيلم لا تحكي عن الجنون أو الأمراض النفسيّة، بل عن الموضوعات التي تلامس ملايين المُشاهدين: عن كيف يتخلّى الإنسان عن حرّيته في سبيل تلقّي الرعاية الصارمة، عن العبوديّة التي يرضى بها الإنسان، عن خوف الإنسان من الحياة. 

  • منظر الصحراء: مشهد رمزيّ

02coco00002المشهدان الافتتاحيّ والختاميّ للفيلم تقريبـًا مُتشابهان: وادٍ مُظلم ومُقفر. في المشهد الافتتاحيّ، تظهر على الطريق السيارة التي نقلتْ البطل الرئيسيّ «جاك نيكلسون» إلى مشفى المجانين، وفي المكان نفسه، يختفي الهنديّ الهارب الوحيد من مشفى المجانين. لم تكن هناك أية مَشاهد رمزيّة في هذا الفيلم ذي الساعتين، والذي لم يعرض سوى صور واقعيّة تمامـًا؛ إلا هذيْن المشهديْن الافتتاحيّ والختاميّ. فصار هذان المشهدان خارجيْن عن الأسلوب الواقعيّ للفيلم، وقاما برفع مستوى الأحداث إلى مستوى التعميم والرمزيّة: أي أنّه ليس علينـا أن نفهم طبيعة الصراع في الفيلم بين البطل الرئيسيّ والنظام في المشفى على أنّه حالة خاصّة.

  • تسمية الفيلم: مقطع من أغنية للأطفال

01coco00003

تسمية فيلم «فورمان» ورواية «كيسي» مأخوذة بالأصل من أغنية للعدّ «Counting-out game» يغنيها الأطفال عادةً عند لعب لعبة تعتمد على اختيار واحد منهم بشكل عشوائيّ، تُسمى «ثلاث أوزات» تقول كلماتها:

Three geese in a flock.

One flew east,

And one flew west,

And one flew over the cuckoo’s nest.

الإوزة الأولى تطير من الشرق، والأخرى من الغرب، أما الإوزة الثالثة فتطير من عُش الوقواق، أي أنها أتت من مكان فارغ أو خاوٍ (حيث تعتبر الاتجاهات الرئيسيّة هي الشرق والغرب). من هنا، صار «عُش الوقواق» تعبيرًا شائعـًا مستخدمـًا في أمريكا يعبّر في كثير من الأحيان عن مشفى المجانين أو هو المكان الذي يضع فيه المجتمع/الوقواق الناس الفائضين عن الحاجة والذي لا يريد أن يتحمّل مسؤوليتهم.

  • «أحدهم طار فوق عُش الوقواق»: سينما ‹فورمان› الخالدة

03coco00004

يقول نقّاد السبعينيّات أن التلميحات حول تحديد الحقبة الزمنيّة التي صوّرها فيلم « أحدهم طار فوق عش الوقواق » تعتبر أقل تفصيلاً من أي فيلم آخر في تلك الحقبة. باستثناء بعض الأخبار التي كان يتم بثها عبر المذياع حول بناء جدار برلين والصراعات العرقيّة في ولاية ألاباما، فإنّ الفيلم لم يشر بشكل مباشر إلى تاريخ مُعين تقع الأحداث فيه. التحديد الزمنيّ لأحداث الفيلم لم يكن بهذه الأهمية، وذلك لإضفاء سمة الشموليّة التي أراد أن يصوّرها «فورمان» في فيلمه. أحداث الفيلم كأنها كانت تدور في عدة حقب: الخمسينيّات التي كانت معروفة بانتشار «التُهم المكارثيّة» التي تتصيد أي مخالف للقوانين. الستينيّات حيث أعمال شغب الطلاب وهدم كل التابوهات القديمة. وأخيرًا حقبة السبعينيّات حيث جرائم «المحافظين الجُدد/Neoconservatism»، والتي ظهرت في أعقاب الثورات الشبابيّة.

  • طبيب قسم الاستقبال: طبيب نفسيّ حقيقيّ في دور ممثل

04coco00006

طبيب قسم الاستقبال هو الطبيب النفسيّ دين بروكس، الذي كان مديرًا سابقـًا لـمشفى الأمراض النفسيّة لولاية أوريغون، حيث تم تصوير أحداث الفيلم. على عكس باقي الأطباء الذين اعتبروا رواية «كيسي» ما هي إلا رواية هزلية خبيثة عن نظام العلاج النفسيّ، فإنّ هذا الطبيب كان يعتقد أن مشاركة مرضى المشفى في صنع مشاهد الفيلم قد تحسّن من حالتهم. الكثير من الذين أدوا أدوار المرضى في المشاهد الثانويّة للفيلم هم مجانين حقيقيّون. 

  • دور ‹جاك نيكلسون›: اللامُنتمي المُحترف

05coco00007اختيار الممثل البارع «جاك نيكلسون» لدور البطولة كان سببـًا رئيسـًا في نجاح الفيلم، حيث يقول «فورمان»: «كلما فكرتُ حول طبيعة الفيلم، فإنني أريد بشدة أن أختار لدور ‹ماك ميرفي› ممثلاً مُحترفـًا. فيلمنا يحمل المشاهدين من عالمهم الطبيعيّ إلى أكثر الأماكن قساوةً وخطرًا وشذوذًا. لهذا قررتُ أن هذا الدور سيكون أسهل على المشاهدين لو قام بتأديته ممثلٌ مشهور مثل جاك.» يقصد المخرج أنّ «جاك نيكلسون» مشهورٌ بتأدية مجموعة كبيرة من الأدوار السابقة التي جعلت المشاهدين يعرفونه بوصفه شخصـًا خالدًا، لامنتميـًا مُحترفـًا، خارجًـا عن السياق، لا يريد أن يتصالح مع النظام، لا يمتلك عملاً دائمـًا، وليس لديه منزل أو عائلة.

  • المُمرضة ‹ريتشيد›: «ميدوسا» هذا العصر

06coco00010تعتبر المُمرضة ‹ريتشيد› في الرواية رمزًا «للسلطويّة الأموميّة/Matriarchy». أمّا في الفيلم فهي رمزٌ للسُلطة الباردة واللامُبالية التي تقوم بتصفية أي شخص بلا أدنى شفقة يحاول أن يقوم باختراق القواعد التي وضعتها. هكذا، وكما هو يحصل دائمـًا في الحياة، فإنّ المُمرضة ‹ريتشيد› تكون على تيقّن تام أنها تقرّ الخير وتحمل ذنب أفعالها الخاطئة، بدمٍ بارد، على أعدائها/المرضى. يوضّح «فورمان»: «بما يخص المُمرضة ‹ريتشيد›، فإنّها أقرب ما تكون إلى شكل «ميدوسا» (وفقـًا للأساطير الإغريقية، فإنّ ميدوسا هي امرأة بشعة المنظر شعرها من الثعابين، ومن ينظر إليها يتحوّل إلى حجر). ستندهشون من أول نظرة لها فقط؛ لكنّ الرعب الحقيقيّ يكمن في أنّ هذه الشخصيّة الفظيعة لميدوسا/المُمرضة تتجلّى فجأة عندما لا تكونون مُستعدين تمامـًا لذلك.»

  • مرضى المَشفى النفسيّ: أناس طبيعيّون و عاديّون

07coco00008ليس كلّ من تم وصفهم بأنهم مرضى في المشفى النفسيّ، دخلوا إلى هناك بسبب مرضٍ ما. فالبعض منهم دخل المشفى بسبب الضعف وقلة الحيلة عن مواجهة ظروف الحياة، أمّا البعض الآخر فهم فعلاً مرضى. لكن على أيّة حال، فإنّ جنونهم هو السبب الظاهريّ لاضطرارهم إلى الخضوع للنظام السلطويّ للمشفى المُتجسّد في قيادة المُمرضة الكُبرى ‹ريتشيد›. قام «فورمان» بقراءة العديد من المقالات النفسيّة، ولم تستهويه الباثولوجيا. يقول «فورمان» عن ذلك: «لقد أغرقني أصدقائي بالمجلات التي تخص علم النفس. كلما تعمقتُ في دراسة مسألة ما، قلّ فهمي لها. فيم تكمن فكرة محتوى الفيلم إذن؟ في سلوك المريض النفسيّ، الذي لا يعلم الأطباء في الواقع كُنهه، فيسمّونه باسم “المرض النفسي” فحسب. ما أفهمه أنّه عندما لا يقدر إنسان أن يؤقلم نفسه على المستوى المُعتاد للقوانين المُتغيرة باستمرار للمجتمع، عندما يعجز عن فهم هذه التحوّلات المُستمرة للبيئة التي يعيش فيها، فإنّهم في النهاية يسمّونه “مجنونـًا”.»

  • ‹الزعيم برومدين› الهنديّ: البطل الثانويّ الأساسيّ

08coco00011

عنوان الفيلم يمكن ترجمته بشكليْن: إما «طائرًا فوق عُش الوقواق» أو «أحدهم طار فوق عُش الوقواق»: حيث يكون «أحدهم» هذا هو الهنديّ صاحب لقب ‹الزعيم برومدين›، والذي يعتبر هو راوي الرواية. في الفيلم حصل على الدور الثانويّ، على الرغم أنه الوحيد الذي تمكّن من الهروب من مشفى المجانين. إذا كان ‹ماك ميرفي› هو رمز للجانب المُتمرّد والعنيف للروح الأمريكيّة، فإنّ ‹الزعيم› الهنديّ هو الجانب المَعيب والخائف: إنّه الشخص الذي توقّف عن الكلام لأنّ أحدًا لا يريد أن يسمعه. 

  • المُمرضة ‹ريتشيد› مقابل ‹ماك ميرفي›: الصراع الرئيس في الفيلم

09coco00013الصراع الرئيس في الفيلم هو المواجهة بين الإنسان (في حالته العاقلة الطبيعيّة أو في حالته العاقلة المجنونة) و النظام المُرعب متجسدًا في المُمرضة الباردة الواثقة تمام الثقة في عدالتها المزعومة. يدخل ‹ماك ميرفي› في مواجهة محكوم عليها بالفشل من البداية، وعلى الرغم من أنه كان يقف وحيدًا في مواجهة النظام، إلا أنّه تمكّن بروحه المُتمردة المُصارعة أن يحقق انتصارًا ولو بسيطـًا في تحرير شخص واحد فقط. لكن «جاك نيكلسون» يرى جوهر الصراع في أمر آخر: «السرّ الخفيّ في “الطيران فوق عش الوقواق”، والذي لم تذكره الرواية، وهو يعتبر سرّي الخاص، أنّ هذا المُهرج المُتمرد يعتقد أنه لا أحدًا يمكنه السيطرة عليه. فهو يعتقد أنّه يواجه امرأةً واحدةً هي المُمرضة التي تعتبر استثناءً في المنظومة. هنا تمامـًا يقبع سوء تقديره المأساويّ. ولهذا، تكبّد في الأخير انهيارًا كاملاً… في رأيي، أنّ ما حدث مع بطلي هو أنّه حاول على مدار وقت طويل وباجتهاد أن يقوم باجتذاب هذه المرأة، كان مقتنعـًا أنّه سينجح، ولكنّه أساء التقدير.»

  • ‹ماك ميرفي› يحاول انتزاع المغسلة: «على الأقل، لقد حاولتُ.»

10coco00017كلّ تصرّف من تصرّفات ‹ماك ميرفي› تعتبر «كسرًا للطابوهات» عند مرضى المشفى. إنّه يسلك سلوك الشخص الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله مُسبقـًا من قِبل المُحيطين به. العبارة العريضة للرواية والفيلم هي: «على الأقل، لقد حاولتُ»، التي قالها ‹ماك ميرفي› في غيظ لمريض كان يراقب كيف كان يحاول اقتلاع المغسلة من قاعدتها الإسمنتيّة. بواسطة هذه المغسلة نفسها، قام الهنديّ بكسر الجدار لكي يهرب من المشفى، فقام بالفعل نفسه الذي كان يحسبه ‹ماك ميرفي› مستحيلاً.

  • مباراة البيسبول: محاكاة ساخرة لديموقراطيّة الانتخابات

11coco00015أول صدام حقيقيّ بين البطل الرئيس و النظام كان حول حق مشاهد مباراة البيسبول الموسميّة. انتهى هذا الصدام بانتصار ‹ماك ميرفي› بشكل واقعيّ وليس بشكل رسميّ. المخرج يسخر من نظام الاقتراع الديموقراطيّ، الذي تبنّته المُمرضة التي كانت على علم مُسبق أنّه لا أحدًا من المرضى سوف يعارض سُلطتها. في المشهد التالي، يحقق ‹ماك ميرفي› نصره؛ حيث يبدأ بالتعليق على مباراة وهميّة في حال تشغيل التلفاز؛ ممّ أشعل إثارة المحيطين بالمباراة. في النهاية، صوّت الجميع بنعم.. من أجل حق مشاهدة المباراة. على الرغم من تعاطف صانعي الفيلم ومؤلف الرواية مع ‹ماك ميرفي›، إلا أنّ هذا المشهد لا يمكن الحكم عليه من جانب واحد: إنّ تأليب ‹ماك ميرفي› للمرضى على النظام عن طريق خلق أفعال شغب صغيرة، يمكن اعتباره بشكل ما، أنّه صورة أخرى من الاستبداد: أي أنّ ‹ماك ميرفي› استبدل شكلاً من أشكال الاستبداد بالرأي بآخر. 

  • رحلة اليخت: تبدّل سياق الأحداث

12coco00018كلّ مشاهد الفيلم مُستوحاة من الرواية. لكنّ في الفيلم المشاهد موظّفة بشكل أكبر من أجل إظهار الموضوع الأساسيّ الذي يتلخص في نقد نظام العلاج النفسيّ المُتعسّف. المشهد الأساسيّ الذي يعكس مواجهة السُلطة: عندما جلب ‹ماك ميرفي› حافلةً بطريقته الماكرة ليصطحب المرضى في رحلة للصيد، نرى كذلك أنّ صديقته ‹كيندي› تضع علم أمريكا الوطنيّ كرمز للحرّية. عندما اقترب مشهد الصيد من نهايته، يلاحظ المشاهدون بشكل واضح أنّ «التنشئة الاجتماعيّة/Socialization» هي السبيل الوحيد للعلاج: «نعم، أولئك أناس طبيعيّون! العالم من حولهم هو غير الطبيعيّ.»

  • أمسية الوداع: ‹ماك ميرفي› يحسم اختياره

13coco00019‹ماك ميرفي› يحافظ تقريبـًا على استقلال شخصيّته وحرية اختياره حتى النهاية. أثناء أمسية الوداع، مرتديـًا معطفه الجلديّ وقبعته، يفتح النافذة، ويتوجّه نحو الحرية؛ لكنّه يلاحظ نظرات المرارة على وجه ‹بيللي› الانطوائيّ. يكتسي وجه ‹ماك ميرفي› بضحكة مجنونة، فيرسل صديقته إلى ‹بيللي› لتصنع له بعض المتعة. على الرغم من أنّ ضيق الوقت لم يكن في صالح ‹ماك ميرفي›، إلا أنّه ظل نائمـًا لوقت طويل بجانب النافذة المفتوحة على الحرّية. ‹ماك ميرفي› وحده هو الذي اختار مصيره المأسويّ، وليس أحدًا آخر.

  • قبعة المُمرضة البيضاء: رمز السلطة

14coco00020

بعد أن فقد ‹ماك ميرفي› أعصابه بسبب انتحار ‹بيللي› الذي وبخته المُمرضة، يحاول أن يخنقها. في هذه اللحظة تسقط القبعة البيضاء من فوق رأس المُمرضة، كرمز لسقوط سُلطتها.

  • الهنديّ يهرب من بيت المجانين: مرحى، وداعـًا!

15coco00021

أوّل من استطاع الهرب من مشفى الأمراض النفسيّة هو الذي كان يؤمن بأنّه: «من الممكن أن يكون المرء حرًا في سجنه، إذا استطاع الحفاظ على صمته.» الهنديّ نجح في تحقيق خطة ‹ماك ميرفي› بانتزاع المغسلة، ثم قذفها باتجاه الجدار. هكذا، يمكن اعتبار محاولات ‹ماك ميرفي› السابقة للانتفاض ضد النظام المُتسلّط لم تذهب سدًى. على الرغم من أنّ النهاية مأساويّة وفظيعة حيث ينتحر ‹بيللي› ويتعرض ‹ماك ميرفي› لعملية «فصل فص المخ الجبهي/Lobotomy»، إلا أنّها تكتسب صبغة «النهاية السعيدة/Happy End» المُعتادة في الروح الأمريكيّة.

  • المراجع:
  • هذا المقال مُترجم بتصرّف عن النص الأصليّ هنــا

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نور الدّين محمّد

دارسٌ للغة الروسيّة و آدابها، و مترجمٌ عنها.

نشر..