شخصيات

استحالة أن يكون المرء كافكا (2)

استحالة الكتابة بالألمانيّة؟

إنّ لغة كافكا الألمانيّة –لغته الأمّ– وقورة، كئيبة، هزليّة، صافية، نقيّة؛ رسميّة دون تكلّف. تحتفظ تقريبًا بنقاوة اللغة الأفلاطونيّة، لا تنتهكها المفردات المُبتذلة أو لغة الشارع، بعيدة جغرافيا عن الكدمات التي تخلّفها الحملات العنيفة للهجة العاميّة المتدنيّة. كان الشعر العبريّ، الذي كتبه يهود القرون الوسطى في إسبانيا، صافيا أيضا: لم تكن عاصمتهم قرطبة أو غرناطة، بل الكتاب المقدّس. بشكل مُماثل، لم تكن عاصمة كافكا اللغويّة هي براغ الناطقة بالألمانيّة على حدود المملكة النمساويّة المجريّة، بل الأدب الأوروبيّ نفسه. إنّ اللغة كانت الأداة المُحرّكة والدافع الأساسيّ لحياته: من هنا كانت «استحالة عدم الكتابة».

في خطابه إلى فيليس باور قال: «كثيرا ما كنتُ أفكّر أنّ أفضل طريقة لحياتي هي أن أمتلك أدوات كتابة ومصباحا في أبعد غرفة في قبو مُغلق رحب.» عندما تحدّث عن استحالة الكتابة بالألمانيّة، لم يقصد فقط أنّه لا يتقن اللغة؛ لقد كانت رغبته أن يكرّس لها روحه وجسده، مثل الراهب مع مسبحته. كان خوفه من ألا يكون مُؤهلا للغة الألمانيّة – ليس لأنّ اللغة لا تنتمي إليه، بل لأنّه لا ينتمي إليها. كانت الألمانيّة مُلائمة وغير مُلائمة بالوقت نفسه. لم يكن يشعر بطريقة بريئة – وعلى نحو غير مُعقد وطبيعيّ – أنّه ألمانيّ. مع ملاحظة أنّ كافكا كان يكتب بالألمانيّة بشغف المُبدع، وأحيانا المترجم على نحو خفيّ، والمُدرك للهوّة، حتى لو كانت لحظيّة، بين خوفه (أو فكرته عن ذاته، إن شئت القول) وبين الراحة العميقة، في شعوره بأنه في اللغة مثلما في دياره، التي تعتبر مواساةً لأية لغة. كان يجد كلمة «Mutter»، التي تعني «أمّ» بالألمانية، غريبة عنه: من هنا تنسلب منه الألفة والثقة الممنوحتان بلا مقابل، من لغة أمّه، «Muttersprache» اللغة الأمّ. هذا الشرخ الفاصل، الأدق من الشعرة، يمكن أن يلقي الضوء على الإقصاء والتشوّهات الواهنة، التي تصدم كلّ قرّاء كافكا، ثم تربكهم في نهاية المطاف.

الآن إذا كان هذا الشرخ الفاصل –أو الأزمة– موجودا بالأصل بين روح كافكا نفسه وطريقته في التعبير، فماذا عن الهوّة المتصدّعة بين كافكا ومترجميه؟ إذا كان كافكا اعتقد أنه من المستحيل أن يكون كافكا، فأية فرصة مُتاحة للمترجم كي يستطيع أن يمسك بعقل مراوغ بهذا الشكل، حتى أنه يتهرّب من إدراك حساسيّته؟ يشتكي كافكا: «أنا، في الواقع، مثل الصخرة، مثل شاهد القبر خاصّتي» لقد كان يؤمن بشكل قويّ أنّه «فاتر الشّعور، أخرق، جبان» وأيضًا «خنوع، مخادع، نكرة، غير جدير بالشفقة، مُحتال… وكلّ ذلك نابع عن نزعة مريضة على نحو فج.» يصرّح كافكا: «كلّ يوم، هناك سطر واحد، على الأقل، سيتم توجيهه ضدي.» كتب: «إنّني أحاول باستمرار أن أنقل شيئا غير قابل للنّقل، أن أشرح شيئا غير قابل للشّرح» «في الأساس، إنّه ليس الخوف، الذي يغطي كلّ شيء، الخوف من أكبر شيء، مثل الخوف من أصغر شيء، الخوف المشلول من خوف التلفظ بكلمة، إلا أنّ هذا الخوف يمكن ألا يكون خوفا فحسب، بل رغبة في شيء أكبر من أيّ خوف.» خوف بديهيّ بهذه الدرجة – حتى أنّه يضغط علينا – يفترض استحالة كافكاويّة أخرى: استحالة ترجمة كافكا.

وعلاوة على ذلك، توجد استحالة “عدم” ترجمة كافكا. لا يمكن أن يخطر على البال الآن هذا الكافكا المجهول، المُتعذر الوصول إليه، الخفي، السرّي، المُنغلق. لكن هذا قد ورد وخطر على البال من قبل، وبواسطة كافكا نفسه. عند وفاته، كان جزء كبير من أعماله لم يُنشر بعد. إنّ وصية كافكا الشهيرة (التي لم تُنفّذ)، إلى ماكس برود حول تدمير كلّ مخطوطاته – التي كانت ستحُرق دون أن تُقرأ – لا يمكن أن تحتوي على أيّة تنبؤات حول تمجيد هذه الأعمال فيما بعد، أو تمجيد مجهودات مترجميها. بعد سبع سنوات تقريبا من العمل، قام كلٌ من «أوويلا Willa» و«إيدوين ميوير Edwin Muir»، الزوجان الاسكتلنديان اللذان درسا اللغة الألمانيّة بشكل ذاتيّ، بتقديم كافكا باللغة الإنكليزية؛ لقد عكس ذلك الكافكا الغامض، الذي عرفناه لفترة طويلة –والذي قام الزوجان «ميوير» باستلابه من ماكس برود– أصواتهم ورؤاهم. لقد وهب لنا الزوجان «أمريكا» و«المحاكمة» و«القلعة» وتسعة أعشار قصصه. ولأنّ الزوجان «ميوير» عملا على تقديم ترجمة لكافكا غير القابل للترجمة حتى باللغة الإنكليزية، فبرز كافكا بين عدّة كُتاب، لا يمكن غض النظر عنهم أبدا، في القرن العشرين – الذين لم يتركوا خلفا أدبيا، مما جعلهم كُتابا «فردانيين»، غير قابلين للتكرار، ولا يمكن أن يحسدهم أحد.

لكن أية ترجمة، مهما كانت على قدر كبير من التّأثير، فإنّها تحتوي على نوع من التخريب. الأدب يبقى؛ أما الترجمة، على كونها فرعا من الأدب، تتفسّخ. لا غرابة في ذلك. إنّ صلابة العمل لا تتقيّد بصلابة ترجمته – ربّما لأنّ النص الأصليّ يبقى صامدا وغير قابل للتغيير، في الوقت الذي تتغيّر فيه الترجمة بشكل لا مفر منه نظرا لوجهات النظر الثقافية المتغيرة والمصطلحات الثقافيّة مع تعاقب الأجيال. هل هذا يعني أنّ ترجمات الزوجين «ميوير» سيعفي عنها الزمن مع تعاقب طبعات مختلفة؟ هل ينبغي علينا أن نلقيها على الرف؟ أن ننحي هذا «الصوت» جانبًا– ليس «صوتنا»؟ أو بشكل أدق، «صوتهما» وليس «صوتنا» إطلاقًا، – بالتالي، أليس كافيًا «صوت» كافكا؟ في نهاية الأمر، نحن نتوق لسماع صوت كافكا نفسه، وليس وسائل التعبير النثريّ لثلاثينيّات القرن الماضي، التي كتبها البريطانيّون المتحمّسون. 

وهكذا قد تقدّم هذه الاعتبارات، وكذلك الضرورة المُلحة للتجديد وملائمة العصر، بما في ذلك الاعتناء الأكبر بالدقة، تسويغا لمحاولتيْن جديدتيْن باللغة الإنكليزية، تم إصدارهما في 1998: «المحاكمة» بترجمة «بريون ميتشيل» و«القلعة» بترجمة «مارك هارمان». (كلا الإصدارين تكفّلت بهما دار النشر شوكين – الناشر الأول لكافكا. في وقت سابق، كانت الشركة الألمانيّة الناجية من النظام النازي في فلسطين ونيويورك قد عادت الآن إلى أصولها، وأصبحت مهتمة من وقت قريب بالألمانيّة «برليتسمان») لقد ألقى «هارمان» اللوم على الزوجين «ميوير» بالقيام بـ«ثيولوجية/ theologization» النثر الكافكاويّ أبعد من أن يمكن أن يدعم النص الأصليّ. أما «ميتشيل» فكان أقلّ تصالحا في نقده لفكرة «البحث عن نص قابل للقراءة ومصقول أسلوبيا»، بالتالي  «فإن الزوجين «ميوير» قد غضا النظر في «المحاكمة» عن التكرار والعلاقات الداخليّة التي تولّد صدى بشكل ملحوظ على سمع القارئ اليقظ للنص الألماني.» على سبيل المثال، يذكر «ميتشيل» أن الزوجين «ميوير» تفادا تكرار كلمتي «هجم، ضرب» (uberfallen)، واستخدما بدلا عنها كلمات «انتزع، اندفع، أخذ، صعق، استولى» – بهذا الشكل، قاما بتبديل اللازمة الكلاميّة التي تعمّد كافكا استخدامها على نحو فج. من هنا، صارت «ضربة» كافكا محددة وصارمة، أما «ضربتهما»، فيؤكد «ميتشيل»، أنها ذابت في هذا التعدّد. 

يُتبـــــــــع

  • العنوان الأصلي للمقال: «The Impossibility of Being Kafka»، للكاتبة الأمريكيّة «سينثيا أوزيك Cynthia Ozick»، المنشور في مجلة «نيويوركير The New Yorker» في 11 يناير 1999م. هنــا
  • المقال مُترجم عن الترجمة الروسيّة للمقال على موقع كافكا بالروسية kafka.ru : هنــا

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نور الدّين محمّد

دارسٌ للغة الروسيّة و آدابها، و مترجمٌ عنها.

نشر..