“الحياة التي نحلم بها مُحال”.. عن ثلاثية يوسف زيدان: محال – غوانتنامو – نور

محال

يتلاعب زيدان بهذه الكلمة التي يتغير معناها بتغير تشكيل حرف الميم. فلقد تعمّد عدم وضع تشكيل للكلمة. فهي مُحال أي مستحيل، وهي مِحال جمع محل، وهي مِحال أي قوة وبأس، فمن أسماء الله أنه شديد المِحال أي شديد الانتقام والبأس. بلغة يوسف زيدان المعهودة، الشاعرية، والحاسمة، جعلني مع هذه الرواية أعيد النظر في أصول الحركات الجهادية الإسلامية، والشخوص الذين قادوا تلك الحركات. وتمظهرت لي آية الرحمن: “فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”. إن الله يضرب الأقوياء بأقوياء مثلهم، كي تستقيم الحياة فلا يعلو فصيل على آخر، إنه الصراع سواء كان دافعه الدين، أو المصلحة.

هذا عن المعاني الخفية التي وصلتني، أما عن أحداث القصة ففيها ما فيها، لكل قارئ رأيه الخاص بها، ولكن الأحداث لم تكن لتأتي إلا لتصب في مورد المعنى الذي ظهر جليـا بين سطور الأحداث.

غوانتنامو

استطاع يوسف زيدان في المحطة الثانية من السرد -بجدارته الأدبية والتعبيرية- المزج بين الواقع والمثال، الخيال والحقيقية، الظاهر والباطن، القديم والحديث، وأخيرًا بين الواقع الحداثي المخبول، والأسرار الصوفية العميقة. استطاع أن يبرز لنا الأسرار الصوفية في رداء جديد، لم نكن نراه أو نحسبه سوى لأصحاب الخرق الذين سبقونا بالإيمان، فنحن أمام بطل يسكن في زنزانة عفنة على أراضي الكفر والفحش. وعلى النقيض، نجده على علاقة من الكشف والصلة برب العالمين في أحوال صوفية عميقة. وكأن يوسف زيدان يعرض لنا صورة للحياة: السجن سجن النفس وظلمة شهواتها، والحراس هم شياطين الإنس والجن الذي يضلون العباد عن سبيل الله، والشاب أبو بلال هو الإنسان المريد في طريقه للحق والحقيقة والنور. لقد صور لنا مصداق قول الحق: “إنك كادح إلى ربك كدحًا.”

قد تخلل الأسلوب بعض الرتابة في السرد في هذه الرواية وهو ما أجده يخدم النص الدرامي بشكل كبير. فيجعلك والبطل سواء في الحالة النفسية، المتقلبة: بين سمو في رحاب الله، وملالة الحياة وثقل محنها، وفحش شياطين الإنس والجن، والرغبات الحيوانية في أجسادنا الطينية، ببساطة، هذا هو الإنسان: “خلق الإنسان ضعيفـًا.”

نور

الرواية الثالثة والأخيرة من الثلاثية عن المرأة، للمرأة وتتحدث بصوت المرأة. الرواية لغتها أنثوية من أوّل كلمة منها حتى آخر كلمة. مليئة بالألم المكتوم، بالحسرة، بالأمل الخافت، بالحب المشلول، بتقلبات الأقدار.

“الحياة التي نحلم بها مُحال.”

هكذا اختتم يوسف زيدان ثلاثيته، فالرواية تعتبر الجزء الثالث من ثلاثيّة “محال”. وإن كان يمكن قراءة كلّ جزء بشكل منفصل عن الآخر، غير أنها متعاقبة في الأحداث، ومشتركة في الشخصيات. ابتدأ زيدان “مِحال” بكسر الميم، واختتمها بـ “مُحال” بضم الميم. مـــــاذا يريد أن يخبرنا؟ أنّ حياتنا مـــا هي إلا تقلّب في المِحال، في البحث عن الحلم المُحال؟!

يحب يوسف زيدان هذه التسجيعات اللفظية، فيقول مثلا أن نورا كانت تدق الثوم “بالهاون على هون”. ولا أخفي افتتاني بهذه التسجيعات، التي تذهلني بسعة لغته، رغم أنّني أحيانًا أجدها تكلفًا خارجًا عن المعقول يشتت عقلي عن متابعة خيط الأفكار، والاشتغال بالألعاب اللغوية. استخدم يوسف زيدان كلمة: “أسّ”، للتعبير عن “أساس، حصن، جسد، أرض، مملكة..” المرأة، وهو تعبير فتنني للغاية، ولم أجد له استخدامًا بهذا المعنى في المعاجم المتداولة، وما زلتُ كسولاً في البحث عنه في لسان العرب. لكنّني أخمّن، أن زيدانًا ابتدع هذا التعبير.

نور هي الأمل الباقي الوحيد في مجتمعنا. هل ستنشأ في إطار إنساني يحترم الأنوثة ولا يخجل من جمالها ويستره عن العيون بدعوى ستر العورات؟ نور هي فتاة الجيل القادم الذي لا نعرف ملامحه حتى الآن. لا نعرف كيـــــف سيكون هذا الجيل الذي نشأ في بيئة دينية متشددة، وفي الوقت نفسه، رأى العالم المفتوح على مصراعيه بالمعلوماتية. لا يخلو سرد يوسف زيدان أيضا من الإشارات الواضح منها والخفي، غير أن جلها واضح. أخمّن أنّ الدكتور “أبو اليزيد” هو الدكتور “نصر حامد أبو زيد”. هذا الدكتور المنسي.

يرصد يوسف زيدان التدهور في كلّ نواحي المجتمع: تدهور المعمار، تدهور الجامعات، تدهور المساكن والسكان، زيادة الجشع لجبي الأموال والوصول إلى المناصب. ويعيد ذكر آراءه المفصلة تمامًا في رواية “ظل الأفعى” في ما يخص القضيتين الأساسيتين الأنثويتين: الحجاب ونجاسة الطمث. رأي يوسف زيدان واضح من البداية، وهذا مـــا يعجبني، أنه ثابت على رأيه، لم يغيره، ويحمل أدلته دائمًا معه، لتكون جاهزة أمام من يشك.

المجتمع الذكوري، يعلن يوسف زيدان، أنه، لا، هذا ليس مجتمعا ذكوريا أو أنثويا، هذا مجتمع لاإنساني، عشوائي، منحل. إنّني أقول أنه حتى لو كنا في مجتمع ذكوري، تعاني فيه الأنثى من صلف الرجال، فإنني أعلن من موقعي كذكر في هذا المجتمع الذكوري، أنّني أعاني مثيل مـــا تعانيه الأنثى، أعاني الذكورية الصلفة ذاتها! إن كان عذاب الأنثى أن جاءت في مجتمع يفرض سلطوية ذكورية عليها، فأنا كذكر جئت في مجتمع يفرض إطارا ذكوريا معينا لي، ويضعني في سياقه دون أيّ اختيار منّي، حتى لــــو أعطاني في مقابل ذلك حرية مزيفة. كما فرض المجتمع “الحجاب” على المرأة، فإنه فرض عليّ كذكر بهذا المجتمع “التدخين” والجلوس على المقاهي الشعبية. إنه أمر مفروض عليّ بالتبعية، لأنني ذكر في مجتمع ذكوريّ. بعبارة بسيطة: معاناة “الإنسان” واحدة، ذكرًا كان أو أنثى.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نور الدّين محمّد

دارسٌ للغة الروسيّة و آدابها، و مترجمٌ عنها.

نشر..