تاريخ شخصيات مراجعات

السّيد إسرائيل

أكبر من جاسوس وأقل من دولة متحركة، عرّاب “إسرائيل” والملاك الوفي الحارس لبقائها، كان بالطبع أهم من أي رئيس ورئيس وزراء لإسرائيل بما فيهم شمعون بيرز الشخص الذي جنّده، لولا “السيد إسرائيل Mr. Israel” ما كانت إسرائيل لتكون على هذا الشكل الآن وربما ما كانت لتستمر بالأصل، الأمر ليس مبالغة فميلتشان حقاً أحد الأشخاص الذين ستظلمهم إن كتبت عنهم بضعة سطور.

أرنون ميلتشان ” Arnon Milchan” ولد في فلسطين المحتلة عام 1944. عميل “سوبر” بكل معنى الكلمة وأقرب ما يكون لشخصية حقيقية لجيمس بوند، قوي الشكيمة، كتوم جدّا وخبير في أنواع النبيذ. تمّ تجنيده في العشرينات من عمره عن طريق شمعون بيرز. أبوه كان جاسوساً من قبله. ساهمت عائلته إسهاما هامّا في حرب 1948 حيث كانوا يصنعون المتفجرات في قبو أرضي في شركة للأسمدة وتصدير البرتقال. في أي عائق ومشكلة تمر بها إسرائيل، إذا عجزت عن تأمين أنابيب للمفاعل النووي، طائرات تجسس، قطع غيار لأسطول الطائرات، صواريخ متطورة، ميلتشان المرجع والخيار الأول. أحد أشهر المقولات فيه:” إياك أن تؤلف نكاتا على رجل يستطيع إحضار سلاح نووي بكل سهولة”. على مرّ السنين قدّم له مديرو وكالة لاكام ” Lakam ” -بدأ من بنيامين بلومبيرغ إلى خلفه رافي ايتان- قوائم طويلة من الأشياء شديدة الحساسية والمطلوبة لبرنامج الدفاع العسكري الإسرائيلي السري، ومواد أخرى مستحيلة المنال متعلقة أيضاً بالدفاع العسكري. عبر شبكة معقدة فاقت المائة شركة من شركات الواجهة في العالم حصل أرنون على تلك الأشياء وصدم بذلك الجميع.

في ندوة صحفية سنة 2005، ميلتشان بين نتنياهو وبيرز يعلن تبرّعه بـ 100 مليون دولار لبناء جامعة.

في ندوة صحفية سنة 2005، ميلتشان بين نتنياهو وبيرز يعلن تبرّعه بـ 100 مليون دولار لبناء جامعة.

عملية أنابيب الكرايتون أولى عمليات ميلتشان، والكرايتون عبارة عن أنابيب موجودة منذ الثلاثينات تستخدم كمفاتيح تشغيل متطورة لتفجير القنابل النووية. ميلتشان أمّن إسرائيل بـ 810 أنبوبا من هذا النوع لبناء مفاعل ديمونة بشكل سري. أحد أشهر عملياته كانت عملية تشيربورغ وعملية ستاربوت. في عام 1969 غادرت ميناء تشيربورغ الفرنسي خمسة قوارب محملة بالصواريخ كانت إسرائيل قد دفعت ثمنها لكنّ الفرنسيين رفضوا الإفراج عنها بسبب حظر السلاح الذي فرضته فرنسا على إسرائيل عقب حرب الأيام الستة خوفا من المقاطعة العربية. ميلتشان سرق القوارب من الميناء وقادها إلى إسرائيل في عملية وصفت بالدهاء لأنها تمت بعلم الفرنسيين أنفسهم. إذ إنّه تلاعب بدولة عظمى بأكملها وبكل أجهزتها. صُدم الفرنسيون من العملية الاحتيالية الوقحة وانتقموا بطرد الملحق العسكري الإسرائيلي موردخاي موشا من فرنسا.

أمّا عملية ستاربوت فكانت سرقة تصميم المقاتلة الجوية سوبر ميراج ” Super Mirage ” التي تعدّ أفضل طائرة حربية في فرنسا، من مصنع سويسري لمحركات الطائرات وتم تنفيذها أيضاً في العام 1969. تمكنت إسرائيل بهذا التصميم بتصنيع طائرة أطلقت عليها الكفير ” Kfir ” والتي بدت مشابهة بشكل صادم للعالم للطائرة سوبر ميراج الفرنسية. وفي عام 1968 أمد أرنون إسرائيل بمائتي طن من أكسيد اليورانيوم أو “الكعكة الصفراء ” Yellow Cake ” بعملية أطلق عليها اسم “بلامبات”. عمليات أخرى وبأسماء كثيرة على مدى حياة ميلتشان الطويلة أمدت إسرائيل ببيركلورات اليورانيوم والبيوتاريز وألياف الكربون وبوصلات جيرسكوبية خاملة ومقياسات تعجيل ورادارات تحديد الدقة ومواد أخرى أساسية لتطوير سلاح ردع نووي.

ميلتشان في لقاء بياسر عرفات.

ميلتشان في لقاء بياسر عرفات.

يعامل أرنون كأمير وأكثر داخل إسرائيل، بل ووصل نفوذه حتى المحكمة الحاخامية، حيث اعتنقت زوجته المسيحية بريجيت اليهودية بمراسم الميكفاه أو مراسم الغطاس عند إعتناق اليهودية. اصطحبت بريجيت أمها وأختها كشاهدتين وهي حامل في الشهر التاسع. وحين سألتها زوجة الحاخام “هل تقسمين أنك عذراء؟”، أجابت بصوت عال ٍ” أجل ”  بدون أن تطرف لها عين ببطنها المنتفخ وهي تقف عارية على حافة المغطس.

سيطر ميلتشان على مجموعة كبيرة من الحسابات السرّية خارج إسرائيل.  مما مكّن إسرائيل من تنفيذ قرارات وعمليات خارج حدودها بدون الحاجة إلى الميزانيات الرسمية، مثل عمليات الاغتيال التي تلت عملية ميونيخ “اقرث وكفر برعم” وغيرها. إضافة لرعاية أرامل الجواسيس وأطفال الذين سقطوا، مثل ناديا أرملة الجاسوس المحترف إيلي كوهين ” كامل أمين ثابت”. كماً استعملت هذه الحسابات في الشراء المباشر للتكنولوجيا المحرّمة دوليا. ساهم ميلتشان أيضاً في ضرب المقاطعة العربية وانهيارها بمجموعة من شركات الواجهة. وفي عام 1977 مرّر الكونجرس الأمريكي قانوناً وقع عليه جيمي كارتر ينصّ على فرض غرامات على أية شركة أمريكية تتعامل وتلتزم بالمقاطعة العربية، ولتطبيق القانون افتتح مكتب الإذعان لمناهضة المقاطعة. وبحلول الثمانينات غزت الشركات الأمريكية كبيبسي وماكدونالدز السوق الإسرائيلية ضاربة عرض الحائط أيّ حديث عن المقاطعة العربية وكذلك فعل متعهدو الدفاع العسكري الأمريكي. مثّل ميلتشان العديد من شركات النخبة الأوروبية والأمريكية في مجال صناعات الدفاع العسكري والصناعات الفضائية في مفاوضاتها غير المباشرة مع وزارة الدفاع الإسرائيلية. كما كان له الفضل في تطور العلاقات الإيرانية الإسرائيلية في عهد الشاه، حيث أنّ إيران ثاني دولة تعترف بإسرائيل كدولة مستقلة بعد الولايات المتحدة مباشرة. وكانت تعتبر أقرب أصدقائها في العالم الإسلامي. في عام 1982 نشرت صحيفة نيويورك تايمز خبرا مفاده أنّ “أكثر من نصف كل أنظمة السلاح التي اشترتها إيران كان مصدرها إسرائيل مباشرة أو تم الحصول عليها بواسطة إسرائيل”.

أفلام من إنتاج ميلتشان

أفلام من إنتاج ميلتشان

إضافة لكونه جاسوسا وتاجرا ومالكا لكبرى الشركات، ميلتشان منتج سينيمائي من الأشهر في هوليوود. بلغ مجموع أفلامه ما يزيد عن 500 فيلم أغلبها حسّنت وجه إسرائيل للعالم ونشرت الرواية الصهيونية لاحتلال فلسطين. لا يزال ميلتشان على قيد الحياة حتى الآن وهو أحد مالكي القناة العاشرة الإسرائيلية. وقد كان تاريخه الجاسوسي غير معلوم حتّى نشر مائير دورون Meir Doran وجوزيف غيلمان Joseph Gelman كتابهما “سرّي: حياة العميل السري الذي تحوّل لأحد أباطرة هوليود- أرنون ميلتشان”. لكنّه اعترف بالأمر وعبّر عن اعتزازه به للمرة الأولى في لقاء مع القناة الثانية الإسرائيلية سنة 2013، واعتبره خدمة للوطن.

 

المزيد من التفاصيل تجدونها في كتاب Confidential: The Life of Secret Agent Turned Hollywood Tycoon- Arnon Milchan, 2011

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

محمد الحريبات

هاوي عربي يكره النُخبة.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..