هُنَا .. هُنَاك

 جَلَسَ علَى المقعَدِ والتفتَ إلى النادِلِ البعِيدِ عنهُ مُلوحًا بيدِهِ ولكِنْ دُونَ جدْوَى، فعادَ يُقلِّبُ الصَحِيفَةَ بينَ يديهِ فِي انتِظارِ أنْ ينتبِهَ إليهِ فيجلبَ له القهوةَ التِي اعتَادَ أنْ يشرَبَهَا فِي هذا الوقتِ منَ الظَهِيرَةِ. وبالقُربِ منهُ كانَتْ فتاةٌ تجْلِسُ فِي هُدُوءٍ وهيَ تنظُرُ في ساعَتِها وتُقلِّبُ هاتِفَهَا الجوّالَ كأنّها تنتظِرُ شخصًا أو اتِّصَالاً. دقّقَ النظرَ فِي ملامِحِها حينَ وضعتْ نظارتها السودَاءَ عنْ عينيهَا وسحبتْ الشالَ المُلتفَّ حولَ رقَبَتِهَا. كانَ وجهُهَا مألوفًا لهُ كأنَّهُ يعرِفُهَا. ورغمَ اجْتهادِهِ ليتذكَّرَ أينَ رآهَا أو متَى عرفَهَا إلّا أنَّهُ عجزَ فهوَ يشعُرُ منذُ الصَباحِ بدُوارِ رهيبٍ ووجعٍ فِي الرأسِ كأنَّ فِي ذاكِرَتهِ ثُقْبًا تنزفُ منهُ الصُورُ والمشاهِدُ. لمْ يتمالَكْ نفسَهُ وابتسمَ لهَا لعلَّهَا تُبادِلهُ حديثُا خفيفًا فتُذكِّرُهُ بماَ يظُنُّ أنَّهُ نَسِيَهُ بيدَ أنّها لمْ تُحرّك ساكِنًا وكأنّها لاَ تراهُ على الإطْلاقِ. أمامَ هذَا التجاهُلِ عادَ إلى صحيفَتِهِ مُكْتفيًا بالخَيْبةِ منْ هذهِ المُحاولَةِ الفاشلَةِ معَ فتاةٍ فاترة.

وبينمَا هُو يُقلِّبُ الصفحاتِ فاجأتهُ صُورتُهُ على إحْدَاهَا.فتحَ عينيهِ دهشَةً لاَ يكادُ يُصدِّقُ ما يَرَى.خفقَ قلبُهُ.لمْ يستوعِبِ الأمرَ.أعادَ قِراءَةَ الجُملةِ المكتُوبةِ أعلَى الصُورَةِ وهو ينتفِضُ فزعًا. “رَحِمَ اللَّهُ الفقيدَ”. التفتَ يمنةً ويسرَةً.ثُمَّ عادَ بعينيهِ إلى الصورةِ ليتأكّدَ أنَّهُ الميّتُ.قرأَ الاسمَ واللّقَب وعُنوانَ المنزلِ.كانَ كُلُّ شيءِ مُطابِقًا لبياناتِهِ الشَخصِيَّةِ.شَعُرَ بالاخْتِناقِ وعجَزَ عنِ التنَفُّسِ.أخْرجَ هاتفَهُ الجوّالَ بسُرعةٍ وأغلقَهُ ليستطيعَ رؤية انعكاسِ وجههِ فِي شاشتهِ السوداءِ.كانَت الصورتانِ مُتماثلتينِ سوَى شجٍّ يراهُ مرتسمًا فِي جبينِهِ كوشمٍ عجُوزٍ بربرِيَّةٍ،ودمٍ يسيلُ رُويدًا بينَ عينيهِ ويقطُرُ منْ أنفهِ على المنضَدَةِ . مرْعُوبًا، ألقَى الصحيفَةَ منْ يديهِ واقتربَ منَ الفتاةِ بينَ رهبةٍ منْ إفزاعِها بوجههِ الدامِي ورغبةٍ فِي أنْ يسألَهاَ أو يعرفَ منهَا شيئًا عمّا يجرِي فهوَ لمْ يعدُ يفهمُ . كلّمهاَ وهيَ بجانبهِ لكنّها لمْ تلتفتْ فوقفَ قُبالَتهَا يُحدِّثُهَا لكنّها لاَ تُلقِي إليهِ بالًا..ياَ للهولِ، إنّها لاَ تراهُ..كادَ يُغشَى عليهِ وتخرُّ رُكبتاهُ بهِ وهو يَكْتَشِفُ هذهِ الحقيقَةَ.

فجأةً وقفتِ الفتاةُ وابتسمتْ. لعلّها رأتهُ أخيرًا. تنفّسَ الصُعداءَ وعدلَ عنْ فكرتِهِ المجنُونَةِ في أنّهُ كائنٌ غيرُ مرْئيِّ. تقدّمتِ الفتاةُ منهُ فاتحَةً ذراعيهَا فتأهبَّ لمُعانقَتهاَ. لكنَّ رَجُلًا آخرَ خلفَهُ كانَ أسرعَ منهُ فاحْتضَنَهَا بحرارَةِ. ثُمَّ أجلسَهَا وجلسَ بجانِبِها. حملقَ فيِ وجههِ مذعُورًا وحدّقَ في ملامِحِهِ خائفًا. لقدْ كانَ هُوَ هوَ. أيُّ لعنةٍ هذهِ؟ كيفَ يَكُونُ رَجُلٌ واحدٌ فِي ثلاثَةِ مواضعَ مُختلفةٍ : واقفًا يُحملقُ في نفسِهِ جالسًا وهوَ في الوقتِ عَيْنِهِ ميّتٌ كما تُخْبِرُهُ الصحيفَةُ المُلقاةُ على الأرْضِ غيرَ بعيدٍ. وبينمَا هُو كذلكَ استرعاهُ أمرٌ غريبٌ فوضعَ يدهُ يسارَ صدْرِهِ ثمّ سحبهَا يائسًا. لاَ نبضَ في قلبِهِ. إنّهُ ميتٌ بالفعلِ. سارعَ إلى كُرْسِيٍّ قريبٍ منَ الطاولةِ التي يجلِسُ فيها شبيههُ والفتاةُ وأرادَ أنْ يسمعَ ما يدُورُ بينهُمَا منْ حديثٍ علَّهُ يفهمُ شيئًا مما يحدُثُ لهُ. وما إنْ ألقَى السّمعَ حَتّى سمعَ شبيههُ يقُولُ لجليستهِ إنَّهُ سيذهبُ بسُرعةٍ لاشتراءِ جريدَةٍ منْ كُشْكٍ قريبٍ ولنْ يتأخَّرَ فِي العودَةِ.

قفزَ منْ كُرْسيّهِ ونظرَ فِي هاتفِ الفتاةِ وهيَ تُمسكُهُ فيِ يدِها ثُمَّ أسرعَ إلى الصحيفَةِ المُلقاةِ على الأرْضِ ونظرَ فِي تاريخِ صدُورِهَا. فكَّرَ وقدَّرَ حَتّى فهمَ أنَّ ما يحدُثُ الآنَ أمسٌ وأنَّهُ لاَ شيءَ ينتمِي إلى غدِ هذا الأمسِ إلّا هذهِ الصحيفَةُ التي تُعلنُ موتهُ. ركضَ بِسُرعَةٍ خلفَ شبيههِ الذِي يهُمُّ بقطعِ الطريقِ إلى الكُشكِ المُقابلِ. حاولَ أنْ يتمسَّكَ بسُتْرتهِ ليمنعَهُ منَ العُبورِ لكنّهُ أخْفقَ فيدُهُ لاَ تقْوى. لمْ يكُن أمامَهُ سوَى أنْ يصرُخَ بأعْلَى صوتِهِ لعلَّهُ يلتفتُ إليهِ ويعُودُ أدْراجَهُ. ولمْ يخِبْ فقدْ التفتَ إلَى الخلفِ لكنْ ليسَ بعدَ سماعِ صوتِهِ بلْ ليُبادِلَ الفتاةَ نظرَةً أخيرَةً قبلَ أنْ ترفعَهُ سيّارةٌ مُسرعةٌ فيسقطُ على الرَصيفِ كثوبٍ طرحتهُ الريحُ الهوجاءُ عنْ حبلِ الغسيلِ. رأى نفسَهُ على الرّصيفِ فلمْ يقوَ على احِتمالِ المشهدِ. تراجعَ موليًا ظهرهُ لنفسِهِ غيرَ عابئِ بالمارّةِ المجتمعينَ حولَ الجُثَّةِ يرمُقُونها بنظراتِهم مُتحَسّرِينَ. عادَ إلى طاولتِهِ وأمسكَ الصحيفَةِ الملعُونةَ باكِيًا. وفجأةً جلست فتاةٌ أمامهُ وخاطبتهُ. إنّهُ يسمعُها وإنّها تراهُ. رفعَ رأسهُ إليهَا فإذا بهَا جليسَةُ شبيههِ. التفتَ بجانبِهِ فرآهَا مازالتْ هُناكَ تنوحُ قُربَ الجُثَّةِ. في حينِ هاهِي الآنَ تجلِسُ معهُ هُنَا.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نضال السعيدي

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..