تاريخ سياسة

متى وكيف بدأت مقدّمات الانحطاط العربي؟ (الجزء الأوّل)

الكاتب: موفق زريق

قبل المدخل

هذا البحث ليس تقييما للتاريخ العربي، بل تقصٍّ لمقدّمات الانحطاط في مساره والكشف عن تراكماتها ومفاعيلها في كلّ أوجه وأبعاد حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية عبر تاريخ طويل، لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد لاكتناه وفهم حاضرنا وواقعنا من الجذور. وأيضا للتّوصّل إلى التشخيص العلمي لحقيقة استعصاءات ومشكلات هذا الواقع في ترابطها المركب والمعقد، كأرضية لا مفر منها لبناء استرايجية مدروسة للنهوض والتجدّد مرة أخرى.

مدخل عام

كان نزول الوحي بمثابة تدشين لتاريخ جديد في المنطقة العربية، ومن ثمّ في العالم القديم. تاريخ من الصراع بين عالم قديم قائم على القوة والغزو والبنى القبلية والبدوية الوثنية المغرقه في القدم وما يرافقها من ثقافة عميقة الجذور في العقل والنّفس تتولى باستمرار إعادة انتاج هذا العالم العصبوي البدوي المغلق، وبين قيم وتعاليم رسالة إلهية نقيضة له جذريا في انسانيتها وانفتاحها واحترامها للإنسان كإنسان تدفعه للارتقاء بنفسه من عصبية القبيلة القطيعية المغلقة إلى رحابة الانسانية ومعانيها في الحرية والكرامة والعدالة السمحاء من مصدر إلهي حق. هذا الصّراع بكل أبعاده من لحظة احتدامه لم يتوقف عبر التاريخ وحتى الآن.

الإسلام بكلّ ماجاء به من مبادىء وقيم شكّل إمكانا وقابليّة لقطيعة تاريخية وثقافية وأيضا معرفية مع ما كان. وهو بالتعريف الحديث مشروع ثورة تاريخية تعيد تأسيس المعتقدات والقيم والانتماء. وليس مجرّد تغيير لنظام أو إصلاح جزئي هنا وهناك. إنّه باختصار مشروع للتحرير الشامل للإنسان من الاستعباد بكل أبعاده، أي تحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ممّا يعني تحرير الإنسان من قطيعية العصبية إلى رحابة العقيدة والإله إيمانا، من عبادة الحجر إلى عبادة رب الحجر والإنسان، من الغزو إلى التّعارف والتّفاعل والتّعاون، من “انصر عصبيتك على الباطل والحق” إلى الانتصار فقط للحق ولو كان ضد القطيع، من الوثن إلى القيمة والمعنى، من الأسطورة والوهم إلى المعرفة والعقل. إنها نقلة وثورة هائلة استدعت مقاومة شرسة من كل فراعنة وقوارين وهامانات الماضي القديم ومصالحه ومألوفه الموروث من آلاف السنين. امتدت عبر عشرين عاما أو يزيد، تمّ اختتامها بفتح مكة وخضوع الصناديد من زعماء قريش ومن ثمّ كسر شوكة المقاومات القبلية والوثنية في كل أنحاء الجزيرة العربية جمعاء.

إنّ الانتصار العسكري والسياسي للدعوة لا يعني بالضرورة انتصار وتبني تعاليم الرسالة الجديدة من قبل من استسلم وخضع حتّى ولو أشهر أسلامه لأنّه خضوع لسلطة الكيان الجديد أو مجرّد دخول فيه كرعايا بدون تبني واقتناع بالعقيدة الجديدة أو تظاهر ونفاق للتكيّف مع واقع الحال. وهذا ما تبيّن بعد وفاة الرسول وارتداد قسم هائل من القبائل ورفضهم القبول بسلطة الدّولة التى مات مؤسسها. عندما كان أبو سفيان وهو من صناديد قريش ذاهبا برفقة العباس عم النبي لإشهار إسلامه قال لرفيقه: “لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما اليوم!” وعندما دخل إلى المسجد محدثا نفسه “كيف غلبني محمد؟” أخبر الوحي الرسول بما دار في خلد أبي سفيان، فقرّبه الرسول قائلا له: “غلبتك بعون الله وإرادته.” حتّى يخفّف من حدّة إحساسه بالهزيمه.(1)

ما سبق الإشارة إليه يبيّن أنّ الموروث القبليّ مازال قويا ومتمكّنا حتى عند أبي سفيان وأقرانه من زعماء قريش الذين انصاعوا للاسلام المنتصر ودخلوا دولته، أكثر بكثير من أن يكونوا آمنوا برسالته وعقيدته. وهذا حال الجموع الكبيرة من القبائل التي خضعت للدولة الوليدة وفي أحسن النوايا كانوا حديثي عهد في الإسلام والموروث القبلي ما يزال هو الأقوى حضورا لديهم. إنّ هذه القوى القبلية -وزعماءها- التي انصاعت للكيان السياسي بحكم الهزيمة العسكرية والتي أصبحت في أحشاء وبطن هذا الكيان هي التي ستقود الثورة المضادة على المشروع الإسلامي الجديد ومن داخله وباسمه، وخصوصا بعد وفاة الرسول والخلفاء الراشدين. والخلافة الراشدة لن تكون سوى مرحلة انتقالية للتهيئة والتحضير من قبل تلك القوى للانقضاض والسيطره على الدّولة الإسلاميه الوليدة لحساب القبيلة والعائلة والغنيمة مرة أخرى.

بعد وفاة الرسول أخذ الموروث القبلي العصبوي والعائلي يطلّ برأسه مباشرة. وقد ظهر جليّا في سقيفة بني ساعدة خلال الحوار بين ثلاثة من قيادات المهاجرين والأنصار الذين أرادوا الخلافة لهم لأنّهم ناصروا الرسول وهم أهل المدينة الأصليّين. وكان رد المهاجرين بأنّهم هم “قوم محمد” قبيلة قريش، وأنّهم الأولى والأحقّ! هل هذا هو منطق الإسلام وقيمه؟ (لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتّقوى). لقد عادوا جميعا إلى مساطرهم القبليّة بالشعور أو باللاشعور ووصل الأمر إلى التهديد وامتشاق السّلاح!؟ لماذا في السقيفة؟ وأين المسجد، حيث كان الرّسول يناقش قضايا المسلمين؟ أين بقيّة المهاجرين الأفذاذ والرّوّاد؟ والرسول لم يدفن بعد! والمعروف أنّ سيّدنا عمر راجع نفسه واكتشف الخطأ عندما وصف ما حصل بأنّه “فلتة أعاذنا منها الله”! هل يكفي إسلاميا أن تكون من قوم الرسول حتّى تستحق الجدارة بالخلافة؟ أو من آل البيت؟ أو من السابقين الاولين؟ (2)

أليس هو شأن خطير وأمر مصيري يستحق أن يجتمع من أجله كل المسلمين في مسجد الرّسول الكريم وحلّ الأمر وفق توجيه الرب الكريم “وأمرهم شورى بينهم” ؟ لم يحصل هذا وبدأت بذور الشّقاق برفض تيار من المهاجرين هذه البيعة لعدم شرعيتها وعدم اكتمال نصابها ولذلك قال الإمام علي الذي اعتبر ومعه الكثير أنّ ما حصل غير شرعي: “أنتم كانت حجتكم أنّكم من قوم محمد وقبيلته وأنا حجتي أقوى فأنا من أهل بيته” (3). وبذروا البذور للشقاق وكانت الأرض صالحة ثم انتشت وربّت وأينعت مع مرور الأيّام وأثمرت صراعا وحروبا وقتلا ودمارا وأحقادا وطوائفا يكفّر بعضها. ما نزال ندفع ثمنها حتى الآن كما سنبيّن.

إنّ المستقبل ليس إلاّ الماضي نفسه مع بعض التّعديل الذي يسمح به الواقع ومعطياته وموازين القوة بين أطراف الصّراع. ويستحيل أن تتمكن قوى المستقبل الجديد أن تصفّي الماضي وقواه ومفاهيمه وآلياته ومواريثه دفعة واحدة أو في عمر قصير بل هو عمليّة تدافع وصراع وجدل مستمر وتاريخي بين الماضي وقواه والمستقبل الجديد وقواه. بانتصار قوى الدعوة، أذعنت قوى الماضي القبلية ولكنها لم تستسلم تماما. بل على العكس، قرّرت الانتقال بالصّراع إلى صعيد آخر وهو الاستيلاء على هذا الملك العظيم الذي سالت شهوة أبي سفيان له وهو في طريقه إلى قائد هذا المُلك لإشهار إسلامه أو في الحقيقة للادعاء بذلك ومجريات الأمور والصّراع فيما بعد أثبتت ذلك.

لقد عزمت القوى القبلية على الانتقام لهزيمتها من داخل الكيان الجديد والغض، مستغلّة دخول تجمعات قبلية ضخمة حديثة عهد بالإسلام ما يزال موروثها القبلي هو الأقوى وأكثر ولائها له أو لم تدخل الإسلام من الأصل. بل أذعنت وانحنت وأعلنت طاعتها للدولة الجديدة وليس للدعوة الجديدة لكي تتمكن بثورتها المضادة من الاستيلاء على الملك العظيم وحتّى على الإسلام نفسه وباسم الإسلام لحساب مصالحها العائلية والقبلية. هذا الملك الذي سيصبح أكبر امبراطورية في العالم، وبذلك يكون الانتصار النهائي والحاسم لها لأنها تكون قد ارتقت من سلطة قبلية محدودة في مكة إلى سلطة امبراطورية عظمى. وهذا ما لم يكن يخطر في بالهم لا في الحلم ولا في الخيال، وهكذا كان.

-يتبع-

المراجع:

( 1) عبد الجواد ياسين – السلطة في الإسلام – طبعة ثانية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ص 258
(2) المرجع نفسه
(3) المرجع نفسه

الصورة المرافقة: كاريكاتير لناجي العلي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

موفق زريق

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..