أدب وثقافة

خشخشة الأساور

الكاتب: نجاة غديري

لم تكن تطمع بشيء، فقد تربّت على قناعة سبكتها الأنفة. لكنّ طفولتها خانتها. لا تزال تذكر مشهد العمّة العائدة من الحجّ وقد التفّ حولها أطفال العائلة. وزّعت على الكلّ هدايا الحج، على الأولاد طاقيات ولعب وكاميرات بلاستيكية صغيرة، وعلى البنات أساور وخواتم. يا لتلك الأساور ويا لألوانها. والدها كان قد أبطأ في العودة من الغربة وقلبُها بفستانٍ أحمر وأساور. كان ذاك وعده لها عندما يعود من سفره، لكنّه أبطأ.

كانت تنتظر دورها لتضع العمة ذات الشعر الأحمر بيديها ما كانت تضعه بأيدي الفتيات المبتهجات. تنمّلت يداها وهي تتحرّق لعناق الأساور. ستحرّك الأساور وتسمع خشخشتها كما خشخشة حليّ النساء. الخشخشة كانت تحدّد للمرأة مقاما في ذلك المجتمع حينذاك ولا تزال. كانت أمّها تخبّئ بعناية أساورها الجميلة وكامل حليّها في درج الخزانة لحين عودة الأب. فلا تتجمّل الزوجة لغير زوجها وتترهّب بغيابه إخلاصا له وتوحّدا مع شقائه بعيدا. تكتفي بحمل قطع لا تحمل لمعة تلائم لبوسها المتقشّف الذي لا يحتفي إلاّ بالزوج الغائب. 

اقترب دورها وسط فرح الفتيات الضاجّ وحركتهنّ الجذلى. كم أبطأت العمة! رفعت رأسها فوجدت عيني العمة الخضراء الصغيرتين تحملقان فيها ببرود وهي تقول: “لم يعد هناك أساور. لقد فرغ الكيس.” الكيس فارغ. فتّشت عيناها عن خاتم صغير قد يكون عالقا بإحدى تلافيف الكيس وخان عيني العمة. لا بأس بخاتم. الأساور سيأتي بها أبوها. “قلت لك لا شيء! لقد انتهى كل ما كان معي. هيا يا فتيات اذهبن للعب بعيدا.”

انكسر قلبها الصغير ورأسها. شعرت بخجل كبير واحمرّ وجهها. يا لحمرة وجهها الحارقة والفتيات مشفقات ينظرن إلى يديها الوحيدتين الفارغتين من أية خشخشة وإلى حمرتها. كان دمعها قد بدأ يطفح وصدرها يرتجف. أمسكتها والدتها توبّخها بهمس: “هيه ماذا علّمتك؟ القناعة كنز لا يبيد. لا تدعي نفسك تهفو إلى خاصّة غيرك. والدك فقط يتكفّل بكلّ ما تشتهين. نحن لا نطمع ونشقى، فكيف إن طمعنا؟ لا تنتظري! ولا تنظري إلى ما ليس لك. تذلّك الخيبة والوجع والشفقة. حذاري من الشفقة والخيبة فإنّها قاصمة للكبرياء!” كان ذلك درسا قديما ساعدها في تقشّف الأمل والفرح والانتظار دون أن تكون تلميذة نجيبة تماما.

يا للأساور! ويا للأحلام الصغيرة المنكسرة على حافة قلب غضّ. لم تكن تعلم كمّ الأحلام الكبيرة التالية التي ستذهب سدى فيما انتظرتها بشغف طفولي. كم تحتاج لقلب الطفلة ولعتاب الأم في قسوة. تلك القسوة الأمومية الّتي تفضح حنوّا مكابرا. ولاستعادة اكتشاف وهم جمال صوت الخشخشة، يتسلّل إليها فائض البياض البارد والموحش في ليل الخارج الخريفي. كم تحتاجه للتدرّب على برد الرّوح والتهكّم من الجمر الساقط إذ ينزل بردا وسلاما.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نجاة غديري

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..