تاريخ

الطّفلة سعيدة في وادي الموت

كانت تحدّث نفسها أن ستنجب ولدا وستسميه سعيدا. كانت السعادة عندها الخلاص من نظرات الاحتقار السوداء التي تحرقها بعد كل بنت. جاءت الطفلة فكانت سعيدة ولكنها ماتت على النفاس. فلم يسعد الأب وحزنت الأم. كانت الدموع كثيرة فالزمن نفسه كان يبكي. الأب أيضا كان يبكي وحده. فبيته لم يعمر بذكر ولكنه ينسى ذلك كلما تذكر سكين الجندي السنغالي بين كتفيه. في وادي الموت جاء الجنود السينغاليون بسيقانهم الطويلة وبنادقهم القديمة التي ركبوا لها سكاكين في فوهاتها يطعنون بها كل شيء وكل أحد.

العام كان محلا والقطيع كان يأكل الحطب الجاف في مجاري الماء الجافة في الشارب. الشارب سهل فسيح تتخلله أودية جافة وهضاب على ضفاف شط الفجيج والملح بين جبال الشارب وجبال طباقة. الرعاة يلتقون فقط لتبادل الحديث عن الجوع والموت والفلاقة وفرنسا التي تخترق السهل والجبل.كان يبتعد عنهم ولا يخوض في أحاديثهم فله أسراره. الفلاقة حددوا له موضع خيمته بين هضبتين فلا ينكشف البيت للناظر من بعيد. هو محطة تزويدهم بالتمر والسويق. وسيمرون عند الحاجة.

ولقد مروا مرات كثيرة. كانوا عادة يأتونه بغزال صادوه في البراري فيعد له منه عشاء دسما ويتخذ لهم منه قديدا كثيرا. ثم يسوق الغنم على إثرهم حتى يختفوا في الشعاب فلا يعثر قصاصو الأثر على شيء. كان يحب فعل ذلك. وكان يخاف لكنه لا يتراجع. وليلة جلب لهم بغلا محملا بالذخيرة من الحامة بات ماشيا يخفف على البغل الحمولة ويستحثه حتى وصل ضحى اليوم التالي إلى علامة في الطريق فدفن الحمولة وكمن بعيدا حتى رآهم يمرون من بعيد ويتزودون. شعر بالفخر تمنى أن يكون معهم في الجبل لكن قائدهم قال له يوما لولاك لمتنا جوعا في الجبال. رضي بدوره وقال انتظر الولد ونذر إن عمر بيته بالولد أن يذبح لهم أسمن الكباش. كان القطيع هزيلا لكن الربيع لا يغدر سينزل المطر.

لم يأت الولد جاءت سعيدة. طفلة سمحة ولها شعر أسود مكتمل وفتحت عينيها منذ اليوم الأول كبيرتان سوداوان نسخة من أمها. لم يرها كره الأم أكثر. غضب وكفر وهام في البرية ولم يعد به إلا الجوع والعطش. الطفلة الثالثة دون ذكر. بيته خال بعد. الجوع أبكى الطفلة حتى جننته. الأم جائعة في الزاوية اليسرى للخيمة مخزية ومقهورة.عاجزة عن القيام وربط حزامها لإعداد قوتها. ولدت وحدها بلا قابلة كمعزاة في البرية قطعت مشيمة البنت بسكين وحضنتها وبكت. الحليب شحيح والبنت جائعة وبكاؤها يشق الليل وأبوها يرفض رؤيتها ومساعدة الأم على الوقوف. والريح تصفر في الفجاج والرمل يخفي قمرا باهتا في سماء غائمة.وثغاء شياه جائعة يزيد اللحظة بؤسا.

لكن خبر الرجل الذي يمير الفلاقة وصل إلى جهة ما. فأفاق في ليلة غائمة على دوى الهجوم. السيارات العسكرية حاصرت خيمته المعزولة في السهل الرملي. جفلت الحيوانات وقفزت من فوق زرائبها وهامت والفرس الشقراء جمحت وتاهت في الليل. قبل أن يستوعب المشهد دخلوا عليه الخيمة وبرك عليه الجنود السود الطوال القامة الحفاة الأقدام. كان القواد يترجم له جريمته. ففهم كل شيء. لكنه كان أعجز من أن يقاوم وحده. دخل الجنود السود الخيمة بقروا كل ما فيها. غرارة النعمة وقربة الزيت الصغيرة. كسروا جرة من القديد.رفعها الجندي الأسود عاليا ورماها ففاحت رائحة قديد لحم الغزال.جعلوا سافل كل شيء عاليه. فلما وصلوا إلى المرأة في فراشها الفقير طلبوا منها الوقوف فلم تفهم ولما فهمت عجزت. انحنى الجنود على طرف الحصير.وقلبوه على من كان فوقه فصار تحته. شرعوا يغرزون سكاكين بنادقهم في الرمل حيث كان الفراش. لم تكن المرأة تنام على ذخيرة من سلاح. لكن الجنود أعادوا دفعها بأقدامهم الحافية فلم تصح ولم تبد منها أية إشارة حياة. كان الرجل تحت أقدامهم يرى ما أصاب أهله لكنه عاجز عن الحركة ورد الفعل. فلما هم بالكلام داسوا على رأسه فامتلأ فمه بالتراب فصمت. أطلق أحدهم النار على كلبة لم تصمت فارداها. طافت الدورية بالخيمة من كل الجهات.ثم ربطوا أمشالها في مؤخرة سيارة عسكرية وقلعوها وجروها بعيدا من فوق المرأة المرمية على التراب. لك يظفروا ببغيتهم . ثم تلقوا أمر العودة فانطلقوا تاركين الرجل وزوجه وابنته في فج خال في ليل غائم وبارد.

تحامل الرجل على نفسه واقترب يتفقد زوجته. سمع بكاءها تحت الحصير المقلوب لكن الطفلة كانت صامتة. ساعد زوجته على الجلوس. كانت الريح تزداد قوة وقد سحبت الخيمة بعيدا ورواق الحطب الذي كان يحميها لعبت به الريح.التفت بما تيسر من مليتها القديمة. وبحثت عن ابنتها تحتها. البنت. صامتة ويد الأم تضطرب بحثا والرجل واقف لا يدري ما يفعل. هذه المرأة زوجته ومسؤوليته والبنت قدر إلهي والعدو قهره وانصرف بسلام وقطيعه تاه في الليل والذئاب. حتى الفرس الشقراء التي لا تترك فارسها اختفت. وجدتها في الضوء الشحيح هامدة كحلمة مقطوعة من جسد. برد جسمها الصغير تماما. حملتها إلى صدرها.وضعت حلمتها في فمها رغم البرد والريح.

كانت البنت ميتة. وشق الصوت قلب الليل.. بنتي

التقفها الأب منها وضمّها وبكى.. بنتي

ثم صمتا في جوف الليل.. كأنهما ماتا. حتى أضاء الصبح غيم الليل الأصفر. فولد نهار أصفر.

وحده في الصبح والريح الحزينة والدموع تجلل لحيته الرمادية. أعاد نصب الخيمة واتخذ لزوجته سترا. ثم اعتلى ربوة دلته على فرسه الهاربة فلما رأته الفرس جاءته تحك رأسها على صدره. ركبها ملطا ليجمع ما تبقى من قطيعه وقد أخذت الذئاب كفايتها مما شرد. قبل الزوال وعلى نفس الربوة حفر لابنته قبرا ودفنها وصلى عليها وحده.

كان هذا في شتاء سنة 1953. في ربيع 2008، كانت المنطقة مربِعة وكانت نور تكبر في حضني حملني إلى نفس الرّبوة. وقال: “لو حفرت هنا لوجدت بعضك. كانت طفلة سمحة واسمها سعيدة وقد وأدها جند الفرنسيس.”

الصّورة المرافقة: من أرشيف الثورة الجزائريّة لعمليّات تفتيش لجيش الاستعمار الفرنسي.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نور الدين العلوي

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..