علم نفس

صناعة الخوف

الكاتب: كيرلس بهجت

سنة 1938، وتحديدا بتاريخ 30 أكتوبر على الساعة الثامنة ليلا، تمّ إذاعة خبر “غزو سكّان المرّيخ لكوكب الأرض!” على إذاعة CBS الأمريكيّة. فما الذي حصل بالتحديد؟

كان هناك برنامج موسيقي يُبثّ على الراديو، فقُطِع عنه البثّ. ليستمع المتابعو لصوت رجاليّ يقول: “أيّها السّيدات والسّادة، عذرا علي انقطاع البث. لقد بلغنا خبر غزو مجموعة من سكّان كوكب المريخ للأرض. وسنوافيكم قريبا بآخر الأخبار.” تلت الإعلان موسيقى عسكريّة لبعض الوقت، ثمّ عاد المذيع مجدّدا. لكنّه في المرّة الثانية أخذ يصف الغزو الذي حصل بتفاصيل أكثر.

Orson Welles يجسّد رواية الخيال العلمي، حرب العوالم/The War of the World لـ H.G. Wells

طبعا، أغلب من قرأ هذا الكلام لابدّ تساءل:”ما هذا التّهريج الذي ينشرون؟! غزو مريخي للأرض! لن يصدّق هذا أحد!” لكنّ الذي حصل فعلا هو أنّ شريحة كبيرة جدّا من سكّان أمريكا قد صدّقوا الخبر. بل وبدؤوا يتعاملون على أساس أنّهم فعلا تحت غزو فضائي، إلى درجة أنّ بعض الناس اتجهوا لموقع المركبة الفضائية الذي أخبر عنه المذيع، ليحاربوا هذه الكائنات! لكن، لماذا حصل هذا؟! لماذا لم يكذّب الناس الخبر أو يشكّوا أنّه قد يكون مزحة أو خبرا كاذبا؟ لماذا واصل النّاس الاستماع دون أن يفكّروا في تغيير القناة الإذاعيّة ليبحثوا عن أخرى للتأكّد من صحّة الموضوع أو عدمه؟ لماذا عمّ هذا الخوف والرّعب من مجرّد خبر هو في الأساس عبارة عن رواية خيال علميّ  للكاتب H.G. Wells ؟!

حسب عالم النفس Hadley Cantril، الذي كان مسؤولا عن تجميع آراء سكّان المنطقة بخصوص هذا الموضوع، فإنّ مجموعة من الناس بدل استخدام إدراكها لتقيس مصداقية الخبر، قاموا بالعكس. سخّروا إدراكهم ليرسم لهم صدق الخبر! إحدى المستجوبات قالت له أنها اختنقت من غاز الفضائيين! شخص آخر استجوبه، قال أنّه شاهد آثار المركبة الفضائيّة والنّار التي تخرج منها فعلا! عنصرٌ مهمّ لنشر الخوف بين النّاس، هو النّاس أنفسهم. فحتّى وإن كان الخبر كاذبا أو غير منطقيّ، يمكن لإدراك الإنسان الشخصيّ أن يصوّره له كحقيقة بل ويشرع في تطويع حواسه لتصديقه.

صحيفة نيويورك تايمز: "مستمعو الراديو في حالة خوف إذ أخذوا دراما حرب إذاعيّة على محمل الجد" الكثيرون

صحيفة نيويورك تايمز: “مستمعو الراديو في حالة خوف إذ أخذوا دراما حرب إذاعيّة على محمل الجد”
“الكثيرون فرّوا من منازلهم هربا من هجوم غازيّ من المرّيخ – المكالمات الهاتفية تنهال على الشّرطة عند بثّ فانتازيا والاس”

في مقالة للدكتور Robert E. Bartholomew بخصوص ذات الموضوع، كتبها سنة 1998، شرح الباحث كيف يختلف مدى تصديق الإنسان للخبر حسب المصدر الذي ينقله له. فإن كان شخص في الشارع قد قال “الفضائيون غزوا الأرض!”، ما كان أحد ليصدّقه. لكن الرّاديو، وسيلة إعلام معروفة يتابعها الكثيرون، فلابد أن تكون لها مصداقيّة، أو من المفترض. فمن المؤكّد أنّ قطع البرنامج الموسيقيّ وإذاعة الموسيقى العسكريّة قد حصل لسبب مهمّ وحقيقيّ. لا يمكن بعد كلّ هذا أن يكون الموضوع مجرّد “خيال علمي”!

في علم المنطق مغالطة تُعرف بـقطف الكرز/Cherry picking. وكما شرحها العالم Richard Crossman فهي تقول أنّ الشّخص إذا سمع كلاما نصفه كذب ونصفه حقيقة، يميل أكثر لتصديقه. من أهمّ أساليب نشر الخوف، أن يكون فيه نسبة من الحقيقة. فالمذيع عندما تحدّث عن الغزو الفضائي، ذكر أسماء أماكان حقيقيّة، تحدّث عن تفاصيل موجودة فعلا ومعروفة وأضاف كلاما يصدّقه الكثيرون ويعلمون أنّه حقيقيّ. وعند نشر ماهو “كاذب”، بدا للناس حقيقيّا. نشر الذّعر فنّ وله أصول!

في الختام، إن كان هناك أمر تؤكّده حادثة الغزو الفضائيّ، فهو أنّه بالأدوات المناسبة والأساليب المدروسة من السّهل جدّا أن تخدع مجموعة كبيرة من البشر، أن ترعب دولة.. أن تصنع الخوف!

فكرة وإعداد: كيرلس بهجت

إعادة صياغة: نهى سعداوي

المصادر:

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

كيرلس بهجت

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..