تاريخ

الشّعراء الصعاليك (1) : الصعاليك.. ذئاب العرب

الكاتب: دعاء فتوح

نطأ نفس الطرق ولكنّنا لا ننتهى لنفس المصير، بعضنا يولد على أرض صخرية كنبتة تخرج من قسوة حجر، نبتة هشة.. خضراء وجميلة. هشاشتها حقيقة لا تنفي أن الجو من حولها قاسٍ. والعطش الصحراوي الدائم يعوّد القلوب الخضراء على استبدال الماء العذب بالرمال، فتتحول تدريجيا إلى صبّار شائك رغم احتفاظه بلونٍ أخضر. هذا الشّعور المختلط بالألفة مع القسوة والعدوانية تجاه جذورنا سبب رئيسي يجعل من البحث حول “الشعراء الصعاليك” بمعزل عن البيئة الطاردة القاسية التي ولدوا داخلها دربا من دروب الخيال. ففي العصر الجاهلي حيث الطبيعة الصحراوية والتناحر الدائم ما بين القبائل، كان السطو وقطع الطرق والسّلب والثّأر سمات طبيعية لأهل تلك البيئة الصعبة، فلماذا إذا أُطلق على هؤلاء دون غيرهم لقب “الصعاليك”؟

فإذا كانت كلمة الصعلوك لغويا بمعنى الفقير، فليس كل فقير صعلوكا. وإذا ارتبط مفهوم الصعلكة بشكل عام بقطع الطرق واللصوصية، فليس كل اللصوص وقطاع الطرق صعاليك. يطرح لنا دكتور عبد الحليم حفني في بحثه “شعر الصعاليك منهجه وخصائصه” هذه المعضلة قائلا:

“ومن حيث أنّ مجرد الغزو والإغارة للسلب والنهب ليس مقصورا على الصعاليك، بل كان طابعا عاما في الجاهلية. ولم يكن الثأر كلّ أهدافها، بل كثيرا ما كانت الغارة لا تستهدف إلا السّلب والنهب، إظهارا لبأس المغيرين، وإرهابهم القبائل الأخرى”. ويضيف حنفي: “أنّ كثيرا من الأفراد والعصابات من غير الصعاليك كانوا يزاولون أحيانا أخصّ أعمال الصعاليك كقطع الطريق. وسيأتي أنّ كثيرا من سادة العرب ومشهوريهم زاولوا أساليب الصعلكة مستهدفين أيضا السّلب والنهب، كعمرو بن معد يكرب، ودريد بن الصمة، والنابغة الذبياني الشاعر المشهور”.

إذن يكمن سرّ الصعلكة في كونها ليست مجرد سمة تطلق على مجمل أفعال كانت تقوم بها القبائل العربية قديما، بل في أنّها سمة تطلق على أسلوب وموقف فكري من بعض أبناء القبائل العربية الذين كانت لهم شخصيّات متفردة واستقلال يخالف مفهوم القبيلة، فنجد سعد بن ناشب يقول عن نفسه:

أخي غَمَرَات لَا يُرِيد على الذِي … يهم بِهِ من مفظع الأمر صاحبا

إِذا هم ألق بين عينيه عزمه … ونكب عَن ذكر العواقب جانبا

وَلم يستشر رَأيه غير نَفسه … وَلم يرض إلا قَائِم السّيف صاحبا

كما يقول تأبّط شرا:

إِذا الْمَرْء لم يحتل وَقد جد جده … أضاع وقاسى أمره وَهُوَ مُدبر

وَلَكِن أَخُو الحزم الَّذِي لَيْسَ نازلا … بِهِ الْخطب إِلَّا وَهُوَ للقصد مبصر

ومن تلك الاستقلالية والفردية يتضح لنا أنّ هؤلاء الشعراء الصعاليك ما هم إلا آباء بررة لشعراء وأدباء عصرنا الحديث، فبالعودة إلى واقعنا والنظر إلى أحوالنا، بعد الحروب العالمية واستنزاف الإنسانية لصالح بعض أصحاب المصالح ورؤوس الأموال، تراجعت البطولات الكبرى وأصبح الإنسان هو محور الكون، والمنجز الأبداعي والفكري العربي الحديث الذي اتكأ على التجربة الشخصية لغالبية المبدعين، الذين تبنوا مواقفا سياسية واجتماعية مغايرة، أجبرتهم رغم مواهبهم الفذة على أن يعيشوا ويموتوا  فقراء، ما هو إلا صورة من صور الصعلكة بمفهومها الحقيقي.

نحن أبناء الفقر والتحايل على الرزق، والكلمة التي تختلط بالتجربة وتنغمس في العادية والرتابة والخطوط المجتمعية الضيقة. نحن قطّاع طرق الحلم، نكتب شعرا لنعرف ذاتنا ونعبّر عن تجاربنا بمعزل عن السلطة والعطايا والتمسّح في أذيال حكومات تقتات على دمائنا. نحن بطّ أسود وسط عادات وتقاليد بيضاء جامدة، تجبرنا على وحدة اختيارية مجحفة.

“العمر لحظة” فيلم قديم عن العجز والتضحية، عن وطنية زائفة. أذكر “أحمد زكي” وهو يموت وعلى وجهه حلم يتلاشي بالوفاء لأرض وطأها ولم يستطيع تحريرها بورقة زواج يعتمدها مجتمع لن يعترف بأبوته لابن غير شرعي. أبناء التجارب المبتورة والخوف والعجز والأباء المجهولين، أبناء هذا الأب الذي يموت قبل الاعتراف بأبوتنا، صعاليك قرن الثورات والمحن. والصعلكة كمفهوم واقعي لها صور عدة تستند جميعها إلى العنف والقسوة تجاه السلطة والمجتمع وأحيانا تجاه أنفسنا، كما أنّها تبدو كموقف سياسي تبلور أكثر في الأذهان بعد ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية ووجود دولة وسلطان وعسكر. فالاشتراكية التي نعرفها الآن كانت في الجاهلية موقفا تبنّاه بعض شعراء الصعاليك أمثال عروة بن الورد، الذي كان يقطع الطرق على الأغنياء ليعطي الفقراء، كما أن مسيرة كفاح مناهضي العنصرية بسبب اللون تبدأ في شبه الجزيرة العربية من صعلكة أصحاب البشرة السمراء أمثال تأبّط شرّا والشنفرى.

الأمر ليس مجرّد قراءة كتب متخصّصة يصعب على عقلي فهم كل ما ورد فيها، بل هناك تورّط نفسي إزاء واقع مشترك، تزاوج حقيقي بين أن تكتب لصالح سلطة القبيلة وأن تحيا مقبولا ومرحبا بك وسط القطيع خروفا طيبا من ضمن خراف مجموع قوي يحتفى بالنموذج ويلفظك لأنك لا تشبهه ولا تستطيع الانتماء لمنظومة تحتقر لونك أو فقرك أو اختلاف روحك التي تريد الانفلات والتفرد. فالصعاليك أو “ذئاب العرب” هم من أنزلوا الشعر من سماء الفخر والمدح والذّم والمقدمات الطللية القديمة، ليتحول “آخيل” اليوناني من نصف إله يبحث عن مجد أزلي، إلى لحم ودم خالص، يتكلم في فلسفة الوجود وحقيقة الموت والحياة والفقر والعزة رغم الحاجة.  هذه مقدّمة لسلسلة محاولة للتّعرّف أكثر على حياة صعاليك العصر الجاهلي وفهم وجهات نظرهم وربطها بحكايات الصعاليك من شعراء عصرنا الحديث، لكشف رابط خفي بين عوالم تبدو متباينة إلّا أنّها نُحتت من نفس الحجر.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

دعاء فتوح

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..