مجتمع

آفة مجتمعنا.. التمييز

الكاتب: هدى قنديل

كانت تمشي بخطى ثقيلة تقطعها الشّوارع،  فتكتفي بالذّبول. حدّثتني عن طفولتها البعيدة، حين بدأ شعورها بأنّ شيئا ما ينقصها لكنّها لم تكن تدركه حينها، وأسئلتها الكثيرة التي كانت تنتهي بجملة واحدة غير مفهومة “انتِ بنت”، عن صلاتها الطّويلة لكي تفهم حقيقة خطيئتها التي عاقبوها عليها بذلك المشرط المؤلم، وخططها التي خبت لأنّها تمتلك جسدا مختلفا. حدّثتني عن خوفها وخزيها من نظراتهم التي لم تعرف أبدا ماذا فعلت كي تنغرس بروحها، وتتعلّم بعدها  طأطأة الرّأس والصّمت. بكت حين أخبرتني بانكسارها الذي تراه كلّما نظرت إلى المرآة، وحين أدركت أنّها مملوكة لأبيها الذي منحها لرجل مازالت تعتبره غريبا، من أجل ستر لا تراه. أخبرتني عن الجثّة المعلّقة بين أضلعها التي تنتفض أحيانا فيسارعون بشدّ وثاقها.

قالوا لا يُقطع النهر مرّتين ولا تتكرّر اللّحظات، لكنّهم كذبوا. فحكايات النّساء وأحزانهنّ تتكرّر كلّ لحظة في مجتمعنا، تتكرّر حدّ التّطابق كثيرا. أعمار كثيرة  تنزف قهرا واستضعافا.

نشأة التمييز:

لم يكتفِ الإنسان بأنّه الكائن المفضّل على الأرض والخلق. أنشأ القبيلة وحوّل نزعة الانتماء إلى نزعة الأفضليّة. البيض أفضل من الملوّنين والملوّنون أفضل من السّود. الأغنياء أفضل من الفقراء والرّجل أفضل من المرأة. هكذا أنشأ الطّبقيّة ونشأت معها الدّيكتاتوريّة وملامح الظّلم والاستعلاء وبؤس الضّعفاء. أوجد دوائر مُحكمة عاش داخلها، وأعلى الحواجز حولها كي يمعن الفصل بينه وبين كلّ آخر يختلف عنه، حتّى وإن كان هذا الاختلاف قدريّا لا حيلة لنا فيه. فوضَع معاييرالقبول والرّفض وتصرّف بناءً عليها كمن خلق الأكذوبة و صدّقها. ولم يتوقّف عند ذلك الحدّ، ففرض قوانينه الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تعتبر ذلك الآخر مواطنا أدنى لا يتمتّع بنفس الحقوق. تصنيفات يعقبها تمييز، طابع نلصقه على جباه الآخرين في أدمغتنا ونحتقرهم أو نعنّفهم بناء عليه. فنخلق حالة ضبابيّة تفقدنا رؤية ما هو واضح وبديهيّ، لدرجة أنّنا لا ننتبه إليه مطلقا. فالمرأة لا يُنظر إليها باعتبارها إنسانا كاملا لا ينقصه  شيء. التمييز الذي استلب وجودها وحقوقها حمل الكثير من العنف الذي خدم نزعات الظّلم والاستكبار، فلم يقبلوا المساواة بين الرّجل والمرأة وإن تساويا إنسانيّا بكلّ لغات العقل والعدل.

التمييز بين الرّجل والمرأة:

 كان لابدّ من وضع الخطّة كاملة الأركان لقتل كلّ تمرّد محتمل. فامتد التمييز إلى تحديد المتوقّع من المرأة والرّجل. ففي مجتمع كهذا، لا يستطيع الفرد أن يفكّر أو يتصرّف إلّا كعضو في طبقته، وكلّ محاولة للتّفكير الفرديّ الحرّ هي تمرّد غير مقبول. فالعنف المجتمعيّ الذي تتعرّض له المرأة ناتج من قانون التمييز المترسّخ في أذهان المجتمع والدّول. هذا القانون الذي يتربّى عليه  الأفراد في المجتمع ذكورا وإناثا، ليصبح مكوِّنا في العقل الجمعيّ للمجتمع. فأصبح العنف ضدّ المرأة عاديّا ومألوفا، بل ومن الطّبيعيّ أن تتعرّض له وأن لا تحصل على كامل حقوقها الإنسانيّة. كما سخّر المجتمع  كلّ قواه من أجل هذه الفكرة، بداية من تأويل النّصوص الدينيّة لتحليلات نفسيّة وفلسفيّة ظالمة وختاما بتطبيع المرأة سلوكيّا وتشويهها نفسيّا لقبول الدّور المحدّد لها كنوع ثانٍ وكائن مبتور غير مساوٍ للرّجل. فتعامل معها المجتمع كفخّ نصبته الطّبيعة، كما قال نيتشه عنها، وتدارك ضعفه أمامها بأن كبّلها بمزيد من القيود والتّحقير.

التمييز والطّفولة:

منذ الطّفولة يُسمح للطّفلة الأنثى بألعاب معيّنة دون أخرى وحركةٍ محدّدة على عكس أخيها. وتنشأ بذلك منظومة القهر والتمييز. وتدخل الطّفلة مرحلة تهيئة المنتج المرغوب والمقبول من المجتمع. ألعابها مُعدّة مسبقا لتحديد صورتها الذّاتيّة والمستقبليّة عن نفسها كعروسة مزيّنة بالماكياج في كامل أناقتها واستسلامها، وحكاياتُها تتمحور حول الأمير المنقذ الذي لا حول لها ولا قوّة دونه والذي من أجله تتحمّل كلّ أنواع الظّلم الإجتماعيّ إلى أن يتحقّق انتصارها الأخير في الزّواج منه. فلن تُقبل اجتماعيّا إلّا بانتمائها إليه. وإذا خانها الحظّ ولم تكن على قدر من الجمال الذي حدّد المجتمع معاييره، فسوف تلقى مصير النّساء الشّريرات في حكايات الأطفال فهنّ دائما لسن على قدر من الجمال. لذا فإنّ جرعتها من التّنازلات ستكون مضاعفة لكي تُقبل اجتماعيّا.

هذا التّعليم الزّائف والقيم الخادعة التي تتربّى عليها المرأة تسرق كيانها وتطبعها في دور اجتماعيّ يضطهدها. وحين تدرك أنّها لابدّ أنّ تُسلَّم من عهدة الأب إلى عهدة الزّوج لكي تكمل الرّحلة المرسومة بدقّة وأنّ قضاء سنوات عمرها في التّعليم -إن حظَت به- أو اكتساب مهارات حياتيّة كان فقط من أجل دور محدّد مسبقا، وهو الزّواج والطّاعة ولعب دور الأميرة الصّامت، فإنّها تقع أمام اختيارين كلاهما مرّ: إمّا أن تتمرّد على هذا الدّور وتطالب بإنسانيّة كاملة في معركة غير مضمونة العواقب أقلّ خسائرها أن تفقد قبولها الاجتماعيّ وإمّا أن تستسلم لهذا الدّور، وتتنازل عمّا علق بها من أحلام بالمساواة أو بأمنية الاختيار.

التمييز والثقافة الشّعبيّة:

يعكس تراثنا الشّعبيّ النّظرة الاجتماعيّة للمرأة. فالمرأة في المثل الشعبيّ مُستباحة ومُهانة ومُعنّفة ولا قيمة لها دون الرّجل. باستعراض بسيط لبعض الأمثال عن المرأة في البلدان العربيّة، سنجد الصّورة واضحة: “حُرمة من غير راجل زي الطربوش من غير زر”، “يا ويل من أعطى سرّه لمراته يا طول عذابه وشتاته”، “يا مخلّفة البنات يا دايخة للممات”، “موت البنات سُترة”، “المرأة أفعى ومتحزّمة بإبليس”، “مولاة الدّار عمارة ولو كانت حمارة”، “للرّجل حرمة ولو يكون عرمة”، “البنت تأكل ما تشبع وتخدم ما تقنع”، “بنتك لا تعلمها حروف ولا تسكّنها غروف”، “البنت إمّا رجلها وإمّا قبرها”، “اللي بتموت وليّته من صفاية نيّته”، “اللي بخلِّف بنت عمره ما يرتاح”، “لما قالوا لي غلام انسند ظهري وقام، ولما قالوا لي بنيّة وقعت الحيطة عليّ”، “شهادة البنت مطبخها”، “مَرَة ابن مَرَة اللي بيشاور مَرَة”، “البنت بتجيب العار والمعيار والعدو لباب الدار”، “إن ولدت بنت عتبة الدّار تحزن 40 نهار”، “البنت: يا جازتها (زواجها) أو جنازتها”.

خاتمة:

التمييز جريمة عنف وظلم واستعلاء لن يتحقّق بها أيّ عدل أو ديمقراطيّة أو مجتمع متوازن. عدم المساواة بين الرّجل والمرأة في الحقوق جريمة. ختان المرأة وإعادة رسم أجزائها حسب ما يرتضيه المجتمع جريمة. سلب حقّ المرأة في التّعليم والاحترام والقبول الكامل جريمة. كلّ استباحة للمرأة وكلّ انتهاك سيظلّ جريمة لا تغتفر. فربّما توقّف وأد البنات بشكل ماديّ ومباشر، لكنّه لم يتوقّف معنويّا وبطرق غير مباشرة.

 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

هدى قنديل

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..