سينما مراجعات

فيلم “Black Swan” .. أين يأخذنا هوس المثاليّة والكمال؟

الكاتب: غادة خياط

كلّما تسنّت للمخرج دارين أرنوفسكي فرصة إخراج فيلم فاعلم أنّه على درب الأب الروحي للإثارة ألفريد هيتشكوك يسير.

دارين أرنوفسكي والإثارة النفسية

من أفلام الإثارة النفسية، هذا الفيلم أحقّ من غيره بالحديث، بداية من الأرقام وصولا للرقص في المسرح. كانت بداية أرنوفسكي مثيرة مع أوّل فيلم له بعنوان “Pi” حيث صوّر شخصيّة ماكسيمليان العبقري من جانب نفسي مرعب ثم أخرج أيقونته الشهيرة “مرثية حلم” حول الإدمان.. وغيرهما، ليتحفنا سنة 2010 بفيلم “البجعة السوداء”، نعم سوداء قاتمة كالتي شاهدناها، وكان للمبدعة ناتالي بورتمان الفضل في اكتمال إثارة المشهد .

كواليس، دارين آرنوفسكي يوجّه ناتالي بورتمان

كواليس، دارين آرنوفسكي يوجّه ناتالي بورتمان

لم يُعرف على أرنوفسكي سوى التّفنن اللاّمحدود في التعمق في شخصية الممثل، فجميع المواضيع التي تطرّق إليها يمكن اعتبرها مستهلكة إلى حدّ ما من ناحية الفكرة العامة “مسرح، إدمان، مخدّرات، موت..”، إلّا أنّ الجانب السريالي في كل هذه الأفلام بلغ ذروته. يُعتبر أرنوفكسي من ثلّة المخرجين الذين نجحوا في الجمع بين الحداثة التي انتهجها أغلب المخرجين والمنتجين في هوليوود وتصوير الرّعب النفسي الذي أبدع فيه هيتشكوك في خمسينات وستينات القرن الماضي، وهم قلّة. فهمّه الوحيد هو التركيز على غموض المشهد وسوداويته واستفزاز المشاهد بموسيقى تصويرية تجعله يغوص في دوامه من الغموض. هذا ما نقله لنا في هذا الفيلم الرائع: نينا (Natalie Portman) راقصة البالي الرقيقة في إحدى الفرق بنيويورك تحلم بأداء دور البطولة في لوحة ‘بحيرة البجع’. ينقل لنا هوسها بالنجاح و الكمال وصراعها للنجاح و الوصول إلى القمّة. فإلى أيّ مدى يمكن أن يصل هوسك بتحقيق حلمك؟

بحيرة البجع.. الرّقصة وقصّة الفيلم

‘بحيرة البجع’ في الأصل، رقصة من تصميم ‘Matthew Bourne’، قُدّمت لأوّل مرّة في بريطانبا سنة 1995 مصحوبة بموسيقى ‘بحيرة البجع’ للمؤلّف الموسيقي الرّوسي تشايكوفسكي والتي تُعدّ من روائع الأعمال الفنية الكلاسيكية، سواء في عالم الموسيقى أو رقص الباليه. و قد وصف تشايكوفسكي هذا العمل أنّه يمثّل ‘الأنوثة في أنقى حالاتها’. حسب الفيلم، تتلخّص قصّة ‘بحيرة البجع’ في فتاة عذراء نقية و جميلة، سجينة جسد بجعة، ترغب في التّحرر والحب الحقيقي فقط هو الذي سينهي السّحر. كادت أمنيتها تتحقّق بفضل أمير يقع في حبها ولكن قبل أن يعلن حبّه لها، تقوم توأمُها الشّهوانيّة وهي البجعة السّوداء بخداعه وغوايته. محطّمة، تقفز البجعة البيضاء من أعلى قمة تلّ وتقتل نفسها ومع الموت تجد الحرية.

باليه موسكو، بحيرة البجع

باليه موسكو، بحيرة البجع

يختار مدير الفرقة (Vincent Cassel) نينا لأداء دور البطولة لما يراه فيها من قدرات دفينة تنتظر فرصة للظهور واستغنى عن راقصته الأساسيّة (Winona Ryder) لتقدّمها في السنّ. تجد نينا صعوبة في أداء هذا الدّور لما فيه من تناقض مع شخصيّتها الضعيفة والهشّة. فإلى جانب شخصيّة البجعة البيضاء التي تشبهها، هي مطالبة بتجسيد شخصية البجعة السوداء العدوانية (Double Role). فكيف ستؤدّي دورين متناقضين في نفس الوقت؟ هل ستتمكّن من إخراج الجانب المظلم الذي بداخلها لإقناع مدير الفرقة، خاصّة وأنّها تواجه منافسة شديدة من قبل راقصة أخرى موهوبة (Mila Kunis). أمام هذه المنافسة، والمدرّب المتطلّب الذي لا يهمّه أن يدمّر نينا مقابل تقديم عمل فني مثاليّ، وأمام إحساسها بالذّنب لتعويض الراقصة الأساسية القديمة وأمام تسلّط أمّها.. أمام هذه الشّبكة المعقّدة من الشخصيات التي تستغلّها وتقف عقبة في طريق أحلامها، كيف ستتصرّف؟ كلّ شخصيّة لها خلفيّة و قصّة مختلفة ستكتشفونها.

الصراعات.. العلاقات

يبدأ الفيلم بإضاءة خافتة مركّزة على راقصة بالي مصحوبة بموسيقى تشايكوفسكي التي تبعث على الحزن والغموض. تشعر منذ الوهلة الأولى أن الشخصية تعيش في دوّامة لا تنتهي من الصراعات النفسيّة. مع تقدّم الأحداث نتعرّف على نينا الفتاة الحسّاسة المثابرة بصوتها الرقيق وتدريباتها التي لا تنتهي ونشكّ شيئا فشيئا في حقيقة ما تراه أمامها. أهو موجود فعلا أم وليد مخيلتها؟ أوّل علاقة تظهر لنا هي علاقتها مع أمّها، علاقة مبنيّة على تسلّط الأمّ التي تتدخّل في أدقّ تفاصيل حياتها وتريد حمايتها من العالم الخارجي وحتّى من نفسها فتعزلها عن العالم وتُفقدها الثقة بنفسها. أمّها التي خسرت حياتها المهنية من أجل تربية ابنتها الوحيدة. فمن ناحية، تراها مسؤولةً عن الفراغ الذي تعيشه ومن ناحية تريدها أن تحقّق ما لم تستطع هي أن تحققه. لكنّ السّجن الذي بنته لابنتها لن يدوم طويلا، فلابدّ أن تحاول نينا أن تكسر القيود وتسعى لاكتشاف نفسها وجسدها خارج جدران المنزل.

ثاني علاقة هي علاقتها مع المدرب ومدير الفرقة. صعب الارضاء، متطلّب، يلتجأ إلى طرق ملتوية ويتلاعب بنفسيّة نينا ليخلق عرضا كاملا ومثاليّا. هو أوّل من حاول أن يُخرج طاقاتها الدفينة وطلب منها أن تطلق العنان لنفسها. كان أوّل من جعلها تكتشف جسدها و أنوثتها.مهما حاولت أن تحسّن من أدائها كان المدرّب يدفعها نحو الأفضل، ولم يكن يعلم أنه يدفعها نحو الجنون. ومن مقولاته:

                                .Perfection is not always about control it’s always about letting go                                       ليس الكمال دائما في التحكّم، إنّه دائما في التّخلّي.
.The only person who’s standing in your way, is you                                                       الشّخص الوحيد الذي يعيقك هو أنت.

العلاقة الثالثة كانت مع منافستها. هذه المنافِسة، اعتبرتها نينا خطرا على حلمها، إذ يجب التخلص منها خصوصا وأنّ هذا الدور هو حلم كلّ راقصة بالي. فكان هذا هو الدافع الرئيسي الذي جعلها تبذل قصارى جهدها لتحافظ على مكانها.

المثاليّة والتتويجات

المقولة الشهيرة للفيلم ”أريد فقط أن أكون مثالية” تلخّص عناء البطلة وهمّها للوصول إلى الكمال لكنّ، الكمال كان باهض الثمن وهوسها بأن تؤدي شخصية البجعة السّوداء جعلها تفقد السيطرة وتوقظ الجانب العدواني والشرير الدفين. يمكن أن تقتل من اعترضها مقابل الوصول لهدفها، حتّى جسدها طرأت عليه تحوّلات غريبة كتحوّل عينيها إلى اللّون الأحمر وبروز ريش أسود على كتفيها. فذلك الهوس الذي أعمى بصيرتها حوّلها إلى بجعة سوداء. في المشهد الأخير، وفيه انتهى العرض، نرى نينا تهوي ببطئ مع ابتسامة شاحبة، متحرّرة من لعنة العرض. لكن كيف؟ وبأيّ ثمن؟ وهل وصلت إلى الكمال المنشود؟ ستجدون الإجابة في الفيلم..

يأخذنا الفيلم في أجواء مسرحيّة فهو عبارة عن لوحة راقصة. يضعنا بين الجمهور نتابع الراقصين في أرجاء مسرح لامتناهٍ، حيث عوّل ” Matthew Libatique ” على تقنية تثبيت الكاميرا وراء الممثلين لنتابعهم أينما حلّوا. كما لا يمكن أن نتجاهل أداء Natalire Portman التي أبدعت في تجسيد شخصيّة نينا بكلّ تفاصيلها وتناقضاتها، كأنّها خُلقت لتجسّد هذه الشخصيّة. حظي الفيلم بإشادة كبيرة من قِبَل المشاهدين والنقّاد. وتمّ ترشحيه للعديد من الجوائز العالمية فاز منها بـ 4 أوسكارات، 3 غولدن غلوب و10 جوائز بافتا. كانت ناتالي بورتمان الرابح الأكبر من ناحية الجوائز حيث حصدت أغلب الجوائز المتعلّقة بأفضل ممثلة في دور رئيسي في جميع المهرجانات المذكورة، مع تلقي الفيلم جائزة معهد الفيلم الأمريكي كأفضل فيلم لسنة 2011.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

غادة خياط

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..