مراجعات

ثلاثية القاهرة … هكذا أرّخ نجيب محفوظ لتطوّر وعي المصريين

الكاتب: ياسر غريب

الرواية: ثلاثية القاهرة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية )
تأليف: نجيب محفوظ
عدد الصفحات: 1410

عندما تنتهي من عمل كهذا، ستجد نفسك في معرض سؤال يظل يلحّ عليك لتجد له إجابة، هل أنا نفس الشخص الذي دخل هذا العالم، العالم المحفوظي المُحكم لدرجة إنك ستجد نفسك فردا منه، هل هذا العالم هو محض رواية لا أكثر ؟! بالتأكيد لا ، فالثلاثية أكثر من مجرد إبداع فنّي روائي يهدف لمحاكاه الواقع، بل هي الواقع ذاته متجلّيا في عمل فني. فما قدّمه محفوظ أجمل من الرواية وأكثر من تاريخ وعي أمّة كان في طور التّشكُل. جاء في كتاب جمال الغيطاني عن ذكرياته مع النّجيب:

تبدو حواري نجيب محفوظ هنا شفّافة تلخّص كلّ ما في الحياة وتعكس ملامح الإنسان في أطواره المختلفة، إنّها باختصار، صورة مقطّرة لعالمنا ودنيانا، صاغها أديبنا الكبير في شاعريّة وحساسيّة مرهفة، وحبّ هائل لقلب قاهِرتنا القديمة، يدعو إلى الإعجاب.

ليس هناك أصدق من هذا الوصف لعالم محفوظ. العالم الذي يلامس جوهر وقيم الحياة والموت، العاطفة المشبوبة بالصّبا والوله والعاطفة الخابية الميّتة، الحيرة الوجودية و الشك وأيضا الجري المتهافت البهيمي وراء اللذة والمتعة.

بين القصرين

هي الرّحلة الأولى، بداية الحكاية التي لانهاية لها. رجل لا حدّ لسطوته وتناقضاته وغرائبية طباعه وامرأة خاضعة خانعة لا تكلّ الخضوع لزوجها، فهذا هو ما طُبعت به وتربّت عليه. لقد أراد محفوظ أن تكون “بين القصرين” مرآة حياة وأخلاق البرجوازيين في أوج عنفوانهم وحياة المرأة في قلب تلك الأخلاق من حيث هي موضوع للذة والمتعة والتسلية تارة وموضوع للحشمة والشّرف والفضيلة تارة أخرى. فكان أحمد عبد الجواد وعائلته: زوجته أمينة، وأبناءه فهمي وياسين وكمال وخديجة وعائشة.

ياسين هو الابن الأكبر والأقرب والأكثر شبها بوالده في نهمه وبهيميته اللامحدودة. فكما اشتهى زنّوبة العوّادة، اشتهى أم حنفي الخادمة. ومثلما اشتاق للزّواج وهام بأيّامه الأوائل، اشتاق في حيوانيّة منقطعة النظير لخادمة زوجته! أمّا فهمي فكان الشاب النّاضج النّاصح الفاهم والمتدين بلا تشديد وتشدّد، والوطنيّ الحقّ الذي لا ينضب حبه لوطنه، فهام بمبادئ ومُثل ثورة 1919 وكان من طلائعها. وآمن بزعيمها وأخلص العمل والأمل في سبيل تحقيق أهدافها فانتهى به المطاف واحدا من قتلاها في مشهد كتبه محفوظ بأسلوب بديع، ولا عجب في ذلك، فقد كان محفوظ وفديّا خالصا و أحبّ سعد زغلول من صميم فؤاده وتربّى في بيت يُذكر فيه اسم سعد ومصطفى كامل ومحمد فريد كما تُذكر أسماء الأنبياء و الأولياء الصّالحين. أمّا خديجة وشقيقتها عائشة فكانتا على مثال الأمّ في خوفهنّ من الأب وامتثالهنّ لأوامره في تقريره للقادم من مستقبلهما. كان أحمد عبد الجواد يماثل في سطوته على حياتهن سطوة إله يعبث بمصائر البشر وكنّ هنّ خير مثال لإماء الرّب و جواريه.

اقرأ أيضا نجيب النجيب أو “أبانا الذي في الأدب”

قصر الشوق

بداية التمرد والخروج على إرادة أحمد عبد الجواد الكسير القلب بسبب وفاة فهمي فخرج أوّل من خرج ياسين وتبعه كمال. كان خروجهما سيرا على خطى فهمى الذي رفض وصاية الأب وآثر الاستمرار في المظاهرات وتوزيع المنشورات. رفض كمال دخول كليّة الحقوق مفضّلا مدرسة المعلّمين العليا، وفي ثنايا هذا الرّفض كان هناك رفض للجهل الذي يطوّق الأسرة بداية من أحمد عبد الجواد. وكان خروج كمال إلى العبّاسية حيث يوجد قصر آل شداد. هناك خفق القلب أوّل مرّة معلنا الحبّ وخفق للمرّة الأخيرة معلنا انتهاء هذا الحبّ للأبد. كانت قصة كمال وعايدة صدى للحبّ الذي عايشه محفوظ نفسه في العبّاسية عندما انتقل إليها، كان حبّا بلا أمل في وصال. أرّخ كمال لحياته الحقّة بحبّه لعايدة، فكان يؤرّخ للماضي والحاضر بما قبل العايدة وما بعدها. وفي هذا الجزء بالذّات، كتب محفوظ الحب الأول بلغة لا سبيل لبلوغها، صافية كما يجب وشاعريّة كما يجبّ وطهرانية كما يجب. لقد ذلّل محفوظ اللّغة وتمكّن منها لدرجة لم ولن يبلغها كاتب آخر.

في قصر الشوق، كان انكسار شوكة أحمد عبد الجواد على يد زنّوبة العوّادة التي لهث خلفها حتى أوقعته، وهو الذي كان الرجل الذي تلهث خلفه الغواني. وانكسر مرّة أخرى على يد ياسين الذي تزوّج زنوبة بخلاف أوامر أبيه. أمّا الذي تتابعت عليه الانكسارات حتى أهلكت فؤاده فكان كمال. عندما خبر الهزيمة في العشق وعصفت بوجدانه وعقله عواصف الشكّ، تاه كمال في دروب الحبّ وخيباته كما تاه في دروب الفكر والفلسفة. خذلته الصداقة التي ظنّها أبديّة وأحاطت به الوحدة من كلّ اتجاه فأذعن لها حتى النهاية. تتقاطع الحياة في قصر الشوق مع الحياة في السّكرية والبيت القديم تارة وتنفصل أخرى. تشهد ميلاد الأطفال وموت الكبار وتورث الآمال كما تورث الخيبات.

السكرية

كم هي مليئة بالفواجع، هذه الحياة التي لا نطمئنّ لها حتى تهوي على قفانا فتزلزل الأرض من تحت الأقدام! يستشري وباء التيفوئيد فيحصد خليل شوكت زوج عائشة وطفليهما عثمان ومحمّد وتعود عائشة للبيت القديم خالية الوفاض إلا من نعيمة، فيذوي جمالها ويخفت صوتها ويضمحلّ جسدها. يكبر الأحفاد فيكون منهم من يرفع راية عودة الدّين ومن يرفع راية الطّبقة العاملة وحتميّة الثّورة وأبديّتها. فتظهر في السكرية نواة الصّراع الذي ستشهده مصر بين اليمين الديني واليسار وقد كان محفوظ في وفديّته معاديا للإخوان تمام العداء ولا يطيق سيرتهم. كان رضوان ابن ياسين مثال الوصوليّة والانتهازية وميلاد البيروقراطيّة والمحسوبية في دوائر الحكم و الدولة.

يمرّ علينا الزمن و يبدّلنا، فنُخلق خلقا آخر غير الذي ظننّا خلوده. تذوي فينا الرّغبة ويقعدنا الكبر والعجز وتداهمنا الشيخوخة فتذلّنا وتغمس أنوفنا الشامخة في تراب الموت. ينتهي أحمد عبد الجواد بعد الصّولات والجولات إلى ما ينتهي له معظم بني الإنسان من عجز وقلّة حيلة إزاء أواخر العمر. يُقعده المرض في بيته ليشاهد الحياة وهي تتغيّر وتتقدّم بسرعة لا يستطيع اللحاق بها، أمّا كمال فهو الثابت على حاله في وحدة لا تنتهي حتى تبدأ من جديد. عادى الزواج وأمعن فيه كرها، فالزواج هو نوع من الإيمان وقلب كمال خال من كلّ إيمان وحب. يغيّب الموت نعيمة، فيطعن قلب عائشة ويهدر بالألم. تقوم الحرب العالمية لتحصد من بين ما تحصد من حيوات حياة أحمد عبد الجواد. يتوقّف القلب الذي حفل بحب خالص لعائلته وحبّ خالص للمتعة. وتبكيه أمينة بألم شديد وجزع كما بكت فهمي من قبله.

تبدّلت الأحوال في قلب القاهرة وفي بيت أحمد عبد الجواد كما في السكرية. علا شأن الكثيرين وتمرّغ آخرون في ذلّ العوز والجنون مثل زبيدة العالمة. حفِل منزل السكرية باللقاءات الشيوعية والإخوانية، اللقاءات التي سيُرمى على إثرها أحمد وعبد المنعم شوكت في معتقل الطور، السجن الذي سيذيع صيته بعد 1952، وكأنّ مصر سجن ممتدّ لا تُعرف له نهاية. يقول محفوظ أنّ فنّه الروائي محتشم. ورغم كلّ ما قدّمه في أعماله يبقى الواقع أكثر صعوبة على التّمثيل الفنّي. الآن، وفي واقع كالذي نعيشه ستكون أكثر الأعمال قربا له والتزاما به بعيدة عنه، الواقع فج وإباحي وعبثي وغرائبي وشديد البؤس والجدب و يستلزم من كتّابنا التّحرّر منه.. أو هكذا أعتقد.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

ياسر غريب

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..