سينما

The Revenant .. حين يكون فيلم الأوسكار اقتباسا من أفلام تاركوفسكي

الكاتب: رومان صبري

منذ شهور، قرّرت أن أعود  لنشر مشاهد من أفلام المخرج الروسي العظيم أندريه تاركوفسكي -شاعر السّينما- على حسابي في فيس بوك بالإضافة إلى أفلام الإيطالي فيلليني وفيتوريو دي سيكا والإسباني لويس بونويل والعظيم داوود عبد السيد وآخرين.. وذلك لما رأيت من إسهال مبالغ فيه في ما تقدّمه غالبيّة القنوات الفضائيّة العربيّة والمصريّة لكلّ ما هو أمريكي. فأصبحت الموضة أمريكية، والأغنية أمريكية، والوجبات السّريعة أمريكية وبالتّالي فالفيلم يجب أن يكون أمريكيّا.

بعد الإعلان عن فيلم ” The Revenant / العائد” وعرضه للمخرج أليخاندرو إيناريتو وبطولة دي كابريو الذي حصل على الأوسكار، بالإضافة إلى الحديث عن الفيلم في كلّ القنوات محليّا ودوليّا، رأيت بعض المشتغلين في السينما يردّدون أنّ فيلم العائد أفضل فيلم قام بتصوير الطّبيعة بشكل ساحر وعلى مهل! انتابني شعور بالشكّ عندما تمّ ذكر هذا التفصيل. لقد عشقت أندريه تاركوفسكي عندما شاهدت فيلمه “أندريه روبلوف” الذي يتناول قصّة رسّام الأيقونات المسيحية الشهير روبلوف، وفيلم “سولاريس”، و”المرآة”، “حنين”، “طفولة ايفان” والذي أوضح كيف تدمّر الحروب الطّفولة بالإضافة إلى فيلم “ملعب التّزحلق والكمان” وفيلمه الأخير “التضحية”. وأعتبره أعظم مخرج وكاتب أفلام في العالم.

بين إيناريتو وتاركوفسكي:

شخص مثلي يدرك تماما كما يدرك جميع السينمائين الدّارسين للسينما في جوهرها الصّحيح أنّ أوّل مخرج اهتمّ بالطبيعة وعرضَها بأسلوب تصوير شاعريّ هو الروسي أندريه تاركوفسكي. وعظماء المخرجين على مستوى العالم يشهدون بذلك. لذلك قمت بمشاهدة إعلان الفيلم ومقاطع عنه، فوجدت ضالّتي في لقطة لفتاة في فيلم The Revenant تطير فوق الأرض وجسدها ممدد على الفراغ بعيدة عن الأرض مسافة ليست صغيرة. تذكّرت سريعا مشهد الحلم الجميل السّاحر في فيلم المرآة لتاركوفسكي، حيث تظهر الزوجة وهي تطير فوق سرير زواجها منتصرة على الجاذبية وممدّدة على الفراغ، تلوم زوجها على كلّ شيء. كان واضحا أنّ أليخاندرو قد تأثّر بشكل كبير وملفت  بذلك المشهد لتاركوفسكي وأراد أن يضعه في فيلمه، حتّىأنّه استخدم نفس التكوين وطريقة التصوير والهدوء.                                                                   

Captur1

اللقطة في فيلم The Mirror

Captur2

اللقطة في فيلم The Revenant

  حاولت تهدئة نفسي مخادعا، فربّما لم يقصد أليخاندرو إيناريتو أن يأخذ المشهد كما هو، لكنّي وجدت مشهدا آخر يجمع دي كابريو وطفلة صغيرة وامرأة شابّة وهم نيام. ذكّرني ذلك بمشهد في فيلم Stalker لتاركوفسكي بنفس وضعية الممثّلين في طريقة النّوم وحركة الكاميرا والتّكوين.

ظللت أبحث عن مشاهد من فيلم العائد وفي كلّ مرة أجد أنّ تصوير الطّبيعة في الفيلم ليس إلّا نسخا لمشاهد من أفلام تاركوفسكي التي لا يمرّ يوم تقريبا دون أن أشاهد أحدها- الكثير من الديكورات أيضا وحركة الممثّلين في الطّبيعة. مشهد الحريق  في فيلم العائد والطّفل يقف داخل كوخ أو خيمة ينظر للحريق فترة ثمّ يذهب داخل الكوخ ليس إلّا اقتباسا من مشهد الحريق في فيلم المرآة بنفس وضع الطفل والكاميرا وردّ فعل الطّفل عندما عاد إلى داخل المنزل! التركيز على المياه وصوت الأمطار وإظهار الأرض أكثر من السّماء ومشهد الأيقونات داخل الكنيسة بالإضافة لاقتباس مشاهد وشخصيّات من فيلم طفولة إيفان.

أدركت أنّ تاركوفسكي هو ملهم إيناريتو وقمت بالبحث عن أخبار أو مواضيع تشاركني رؤيتي. وبعد يومين من البحث بلا ملل، عثرت  على فيديو لـ Misha Petrick على يوتيوب، بعنوان “العائد لـ تراكوفسكي” يوضّح كيف أخذت مشاهد عديدة من فيلم العائد من أفلام تاركوفسكي، وحينها فقط شعرت بالرّاحة. ليس لأنّني وجدت ما يؤكد كلامي لأنّي مؤمن بصدق ما قلت ولكن هذا الفيديو سيجعل الكثيرين يعاودون التفكير فيما يشاهدون. وقد يتسبّب في تضييق الخناق على صنّاع الفيلم خاصّة أنّ صاحب الفيديو يحظى بشعبية كبيرة.

تاركوفسكي:

رغم هذا يغلبني شعور بالمرارة، فقد قيل في الاتّحاد السوفيتي أنّ فيلم “أندريه ربولوف” يزيّف الحقائق وغيرجذاب. في الوقت الذي دقّت فيه إيطاليا والسويد وفرنسا وأسبانيا ناقوس الاحترام والذّهول لهذا المخرج العظيم. كما أنّ محاولات عديدة جاءت لإجهاض  فيلمه “المرآة” باعتباره  معقّدا وغير مفهوم، ليتمّ عرضه في النهاية دون إعلانات أو بوستر مصاحب للفيلم حتّى يتأكدوا أنّ الفيلم قد تم إفشاله، لكن هيهات “أفلام العظماء تبطل أيّة محاولة لإجهاضها.”

كانت أمريكا تشيح بوجهها دائما عن أفلام تاركوفسكي لأنّها تعلم قيمة وعظمة تلك الأفلام مقارنة بالسينما الأمريكية. يُذكر أنّ تاركوفسكي هو ابن الشاعر الرّوسي الكبير أرسيني تاركوفسكي الذي عانى من القيود على أعماله وقام بترجمة الشّعر العربيّ إلى الرّوسية مثل أشعار أبي العلاء المعرّي. شعر تاركوفسكي الابن بالظلم فسافر إلى إيطاليا ليقوم بإخراج الأفلام التي يفضّلها بعيدا عن القيود داخل روسيا، مما جعل كبار المنتجين في أمريكا يسافرون  إليه  ويتّصلون بة ويقدّمون له  عروضا وأمولا طائلة شريطة أن يهاجم بلده روسيا في أفلامه ويكون القهر الذي عاناه هناك دعامة لأعماله، لكنّه رفض وقال: “أنا أحبّ روسيا!” كان تاركوفسكي يرى روسيا أعظم وطن لأنّه وطنه وكان يريد أن يُدفن فيها وغازلها في فيلم قبل الأخير “حنين”. توفي تاركوفسكي في فرنسا بمرض سرطان الرئة عام 1987 ودفن هناك. وبعد وفاتة قرفعت روسيا الحظر عن أفلامه وتدريسها بالإضافة لكتبه في معاهد السينما، وأصبحت تحتفي بذكرى ميلاده.. وكأنّ الإنسان يجب أن يموت لترحّب أرضه بذكراه. يا للتعاسة!

إنّه لأمر جيّد أن تحاول البشرية استرداد حقوق المبدع عندما يحاول أحدهم أن ينسبها لنفسه، ليس فقط أمرا جيّدا بل هو مقدّس. فهل حصل تاركوفسكي على أوسكار في حياته وأنا لا أعلم؟! في المقابل حصل أليخاندرو إيناريتو على أوسكار لأنّه قدّم ذرّة صغيرة مما قدّمه تاركوفسي! في النّهاية، المقال لا يشكّك في فيلم العائد ومبدعيه، المقال يحاول فقط أن يقول ما يجب قوله!

إبداع تاركوفسكي في تصوير الطبيعة

مشهد الريح من فيلم “Mirror/مرآة”، 1975

مشهد الأم جالسة تدخن والطبيعة الواسعة تحتضنها. الحوار بينها والطبيب يؤكد إدمان تاركوفسكي للطبيعة.

مشهد الأم جالسة تدخن والطبيعة الواسعة تحتضنها من نفس الفيلم. الحوار بينها والطبيب يؤكد إدمان تاركوفسكي للطبيعة.

مشهد يجمع الإنسان والحيوان والطبيعة من فيلم "المتتبع/Stalker"

مشهد يجمع الإنسان والحيوان والطبيعة من فيلم “Stalker/المتتبع”، 1979

مشهد القبلة من فيلم “Ivan’s Childhoodطفولة إيفان”، 1962

مشهد من فيلم "سولاريس/Solaris" 1972

مشهد من فيلم “Solaris/سولاريس” ، 1972

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

رومان صبري

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..