سينما

  محمد خان .. الحرّيف الذي “ذهب ولن يعود”

الكاتب: رومان صبري

قد يبدو العنوان صادما، للأسف لم أجد عنوانا مناسبا غيره. فالمخرج المبدع دائما ما يرتبط بأسماء أفلامه. “بالحق” قد غادر “الحرّيف” كوكب الأرض وذهب إلى ربّه ولن يعود. ليس بمقدرونا سوى أن نعزّي أنفسنا في هذا المخرج ونتذكّر مشاهد أفلامه التي كانت تنسج حياتنا الصاخبة بكلّ رقّة وتدعونا للذّهاب إلى رحلة يسكنها فضاء واقعي نشحن فيها أرواحنا بحقيقتنا حتّى نخرج أقلّ تعبا وأقلّ إرهاقا.

خان الذي دعانا للذهاب إلى الرّيف وإعادة النّظر في المرأة الريفية وتسليم أرواحنا  للطبيعة كي نتخلّص من مرض مزمن تسبّبت فيه المدينة بعوادم سيّاراتها وزحامها واستهتار بائعيها الجائلين. في النهاية، سوف نردد العبارة الشهيرة “رحل الرجل ولكن أعماله باقية”. أعمال المبدعين لا تموت، وهذا ما أكّده التاريخ! غادر خان إلى ربّه وترك خلفه أعمالا سينمائية تحمل لمساته السحرية وفنّه وابداعه. كلّ فيلم صنعه خان يحتاج إلى كتاب من ألف صفحة لتحليله وتفسير وتوضيح نقاط  الجمال فيه وحرفيّته في إدارة الممثّلين وتغطيته لعدد كبير من الممثّلين في الشارع مع التركيز على الأبطال الرئيسيين.

نجلاء فتحي وعايدة رياض في أحلام هند وكاميليا

نجلاء فتحي وعايدة رياض في أحلام هند وكاميليا

البداية

عادة ما يختار  المخرجون المبتدئون سيناريو بسيطا جميع مشاهده داخلية حتّى يبتعدوا عن صعوبة التّصوير في الشّارع. أمّا خان فقرّر أن يكون أوّل أفلامه -وهو فيلم “ضربة شمس”- في الشارع! جميع مشاهد الفيلم خارجية رغم أنّه كان يعلم أنّ التّصوير الطّبيعيّ في الشارع المصري يعدّ انتحارا لأنّ المواطن المصري بمجرد أن يرى كاميرا، يسرع ليقف أمامها ويلوّح لأسرته التي في المنزل، باعتبار أنّه قد أصبح مشهورا. ولا ينتبه لصوت المخرج الذي يكاد ينفجر من غيظه وصوته ينطلق كرصاصات من الميكرفون يطلب منه الابتعاد وعدم النظر إلى الكاميرا، لكن خان كان يعلم أنّه أقوى من استهتار المواطن المصري. وقد مثّلت أعماله مادّة دسمة لكتاب المقالات التحليلية الذين يعملون في المجلات الفنية المتخصّصة.

كان الحلم الأكبر لخان الطفل ذو الجذور الباكستانية، أن يكون مهندسا معماريا. وحبّه للسينما جعله يقتل حلم طفولته. ففي الخمسينيات، سافر لدراسة الهندسة في انجلترا ثمّ تحوّل لدراسة السينما، بعدما تأكّد أنّ مكانه الطبيعي في الحياة: خلف الكاميرا. لم يدرس خان الإخراج بالأسلوب التقليدي المتعارف عليه والذي يتّبعه مخرجين اليوم من الشباب، حيث تتبلور كلّ أعمالهم حول محاكاة وتقليد الفيلم الأمريكي، ركّز خان على الأفلام الأوروبية وأهّم روّادها الأوائل مثل الفرنسي اريك رومير والسويدي انغمار برجمان والروسي اندريه تاركوفسكي والإيطاليان أنطونيني وفيلليني والياباني أكيرا كوروساوا  وسيدني لوميت. حصيلة الأفلام التي كان يشاهدها “خان” في السّنة تعدّت الألف فيلم. وهذا لا يعني أنّ كثرة مشاهدة الأفلام يجعل الشّاب الذي أنهى دراسة الإخراج حديثا يقوم بتقليد طريقة تصويرها واستخدام نفس اللّقطات والأحجام  في أفلامه فيما بعد.

خان-ضربة-شمس

ضربة شمس

يقول اندريه تاركوفسكي:

إن الفيلم لا ينشأ في الفراغ بل بين العديد من أعمال المخرجين الآخرين.  أنا أعشق برغمان واكيرا كوروساوا وميزوغوشي وانطونيني وبونويل. وشاهدت جميع أعمالهم أكثر من مئة مرّة لأنّني أرتاح مع أفلام هؤلاء العظماء وقمت بتحليلها عدّة مرّات، لذا إذا سألتموني ما الذي أخذه تاركوفسكي من هؤلاء العظماء الذين يعشقهم؟ سأقول: لا شيء. ليست لديّ أيّ رغبة بتقليد الآخرين لأنه  من المستحيل أن أفعل ذلك. وعندما أصوّر فيلما جديدا، أشاهد أعمالهم حتى لا أصنع مشهدا مشابها  لها، أشاهد أعمالهم حتى أصنع فنّا وفيلما  مختلفا جديدا.  لا.. لا.. لا.. لم أرغب بتقليد أيّ من هؤلاء العظماء!”

وهذا ما فعله خان كي يكون “الحرّيف”. كان فارس الحرّيف بطل فيلمه الثاني يراوغ بـ”الكرة الشّراب” ويجعل منافسيه يركلون الأرض غيظا، أمّا خان فكان حرّيفا من نوع آخر يراوغ ويلتقط بعينه أوّلا ثمّ يسجّل أهدافه بالكاميرا.

تأثّر خان بالمخرج المصري الكبير صلاح أبو سيف، وعمل في شركة “فيلمنتاج” التي كانت تحت إدارة أبو سيف. وبسبب صعوبة الإنتاج، ضاق الحال بخان وأصابه الاكتئاب، لذلك قرّر أن يفتح مطعم فول وطعمية في لندن. وعرض فكرة المشروع على أبو سيف الذي رحّب بالفكرة وقرّر أن يدخل كشريك معه في المشروع قائلا لخان: “مفيش مطاعم فول وطعمية في لندن، دي فكرة هتخلينا مليونيرات.” ومنحه شيك بالمبلغ. كان المشروع لينفذ لولا تدخل الممثلة نادية شكري التي قالت لخان: “حرام عليك تدرس الإخراج وتفتح مطعم فول وطعمية عشان تبقى مليونير. تعالى مصر سهل تعمل أفلام هناك. وبعد اقتناعه بكلام نادية شكري، ردّ الشيك للمخرج صلاح أبو سيف، وصنع أوّل أفلامه “ضربة شمس” الذي قام نور الشريف بإنتاجه وحقّق نجاحا جماهيريا باهرا وأعجب النقاد وأدهشهم.

محمد خان وأحمد زكي

محمد خان وأحمد زكي

خان ، أفلام المقاولات وأحمد زكي

بدأت أفلام المقاولات  في الثمانينات التي كانت تنتج على أيدي تجّار الفاكهة والموبيليا وأصحاب محلّات عصير  القصب وتُنسخ على شرائط الفيديو. ويتم توزيعها في دول الخليج من أجل جني الأرباح بسهولة. شعر روّاد الواقعيّة الشّباب في تلك الفترة بالخطر، فقرّر كلّ من داود عبد السيد ومحمد خان وعاطف الطيب ومدير التصوير سعيد شيمي وخيري بشارة وآخرون إلى إنشاء شركة إنتاج عرفت بالجماعة السينمائية. وكان الشاغل الأكبر للجماعة هو إنتاج الأفلام الهادفة الواقعية التي تحمل هموم ومشاكل المواطن المصري. من الأفلام الأولى للجماعة فيلم “الحرّيف” الذي وقع اختيار مخرجه  على  أحمد زكي في البداية، ليكون بطل فيلمه. علم خان منذ البداية ان أحمد زكي سيكون اعظم ممثل في جيله، وبعد ذلك أصبح زكي أيقونة أفلام خان. وصنعا معا أهمّ أفلامهما مثل “زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا” و”أيام السادات” وأفلام أخرى برغم الخلافات الدائمة بينهما واجتماعات الصلح التي كانت تنتهي دائما بمزيد من الشجار.

لكن الجماعة كانت بحاجة إلى المال لأنها ما زالت شركة إنتاج صغيرة، لذلك فقد رأت أن يكون بطل الفيلم هو عادل إمام، لما يمتلك من شعبية في ذلك الوقت. من المؤكد أنّه سيجعل الفيلم يحقّق أعلى الإيردات وارتضى خان قرار الجماعة. وفي تلك الأثناء وقع اختيار المخرج عاطف سالم على  أحمد زكي ليكون بطل فيلمه القادم  النمر الأسود، وق عُرض فيلم “الحرّيف” و”النمر الأسود” في نفس الوقت. وفي الأيّام الأولى للعرض أطاح النمر الأسود بالحريف وجعله يفشل فشلا ذريعا ولم يحقق إيرادات تغطّي ما أنفِق على إنتاجه. وأصبح النمر الأسود بطل شباك التذاكر. حقّق الفيلم إيرادات مهولة غير متوقعة. أصابت الحسرة خان بعد فشل فيلمه  الثاني. وهذا الأمر يجعلنا ننظر إلى الموضوع من اتجاه آخر، فالمشاهد يذهب إلى الفيلم الذي يريد أن يشاهدة ومن السهل أن يتخلّى عن بطله الذي يحبه بكل سهولة لكن، من وجه نظري يظل الحرّيف الفيلم الأعلى قيمة والأعظم. ودخل  الفيلم قائمة أعظم مئة فيلم مصري.

ظل الحرّيف بعدها يصارع الظروف الإنتاجية الصعبة بلا كلل. وقام بإخراج العديد من الأفلام المصرية الهامة التي أصبحت من علامات السينما المصرية. وشاركت أفلامه في مهرجانات عالمية وحصد الكثير من الجوائز. وأصبح اسم محمد خان عالميا، بمجرد أن ترى في بداية الفيلم عبارة -فيلم لمحمد خان-  تقول يا للروعة. خان من أهم الرواد الأوائل لسينما الواقعية التي لا تعتمد على البطل الواحد، بل إن الشوارع والمواصلات والشرفات والباعة والموظفين وصخب الشوارع المزدحمة إلخ.. من أهم أبطال الفيلم. تميّز خان في أوّل أفلامه بقيادة المجموعات الكبيرة بكل سهولة والتي تعتبر من أكثر المشاكل المعقّدة التي تواجه المخرجين الشباب الذين يعالجون الأمر عن طريق تحريك الكاميرا وتحريك الممثلين، أمّا خان فكان يعالج تلك المشاهد الصعبة عن طريق العديد من المعالجات التي يتميّز بها المخرجون المحترفون مثل استخدام اللقطات الثابتة لكلّ مجموعة وتركيبها في غرفة التركيب – المونتاج –  مع الاحتفاظ  بتتابع المشاهد. بالإضافة لذلك تميّز بالعمومية التي تميّز مخرج الفيلم التسجيلي عن المخرج الروائي. ويعتبر من أوائل المخرجين الذين اهتموا بالصورة واللقطات الواسعة لتسجيل الواقع ولم يهتموا بتنجيم النجم مثل الذي نراه اليوم من مشاهد بسيطة داخلية غير هامة يقوم المخرج بالتقاط عدة لقطات لنجم العمل بناء علي طلب من المنتج من عدة زوايا ليرينا سحر وجمال “قفا النجم” وأذنه وأسنانه  والشعيرات الدموية التي تسكن أنفه وكم هي رائعة وجميلة!

خان ومصر

حمل خان مشاكل مجتمعه المصري على عاتقه ولم ينسق لسينما المقاولات برغم العروض التي تهاطلت على مكتبه وعدم منحه الجنسية المصرية طوال هذه السنوات يعدّ جريمة. شعر خان بالألم وعدم التقدير لكنّه لم يبح بذلك وظل يعمل فقط. دائما ما يخفي المبدع أحزانه داخله  ويبتسم، إلى أن صدر قرار رئاسي من الرئيس السابق/عدلي منصور بمنح الجنسية المصرية للمخرج محمد خان في عام 2014، الأمر الذي جعل الأخير يشعر بالتقدير والسعادة قائلا: “حصولي على الجنسية المصرية كان حلما وقد تحقق”. وتمّ التقاط  صورة تجمعة مع بطاقته المصرية الجديدة.

خان والهوية المصرية

خان والهوية المصرية

في النهاية، أود أن أقول إن خان أنشأ مدرسة  في الإخراج باسمه منحت لقواعد الإخراج كماليات جديدة. سينما خان ليست سينما خاصة وهو استطاع فهم عقلية المشاهد المصري أكثر من شاهين، هذة حقيقة لا يمكن إنكارها رغم حبّي لشاهين. سينما خان تصلح للمضطربين نفسيا والمضطربين عاطفيا والنبلاء والأطفال والمراهقون ولحواء وآدم والبسطاء والأغنياء..  دائما ما يخلق الله أناسا مختلفين ليحطّموا كهف الظّلام ويحلّ نور الله، ويعبر الذين عاشوا الظلام إلى النّور.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

رومان صبري

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..