أدب أدب وثقافة

هواجس رجل تخطّى الستين -1-

أحس “سي العايش” هاته المرة أن شيئا قد تغير في حياته إلى الأبد، لكنه لم يكن قد لمس ذلك التغيير بعد. أجّل موعده شهرا، ثمّ أياما، حتّى يطيل استمتاعه بفوضى حياته التي كان يعشقها ويحب أن تستمر على ما هي عليه قبل أن تتغيّر. كان يدرك يقينا أن الطّبيب سيمنعه من بعض ملذات الحياة التي كان يحبها، لكنه اضطرّ أخيرا للذهاب لمقابلته مكرها تحت ضغط زوجته و إلحاح أبنائه وبناته.

اصطحب زوجته و انطلقا باكرا. اختارا الحافلة في هاته الرحلة في غياب سيارة خاصة توصلهما. لم تكن مكتظة، اختار مقعدا مريحا بجانب زوجته على مستوى وسط الحافلة. قرّر أن لا ينام فعنده كتاب يريد قراءته. كتاب ألّفه إنسان يحسّ أكثر من اللازم ويفهم أكثر من اللازم. فتاة جميلة تجلس في المقعد المقابل مازالت تتفحّصه كي تكتشف فيه اللص أو المتحرش. لم تطمئنّ إليه بعد. ورجل مسنّ قد يكون أباها، سقط في النوم قبل أن تنطلق الحافلة في رحلتها الطويلة. رجل هادئ يجلس إلى جانبه، يفصله عنه ممرّ صغير، يستعرض الطريق، أحسن ما فيه أنّه لا يثرثر وإذا تكلّم فباقتضاب شديد.

كانت الطريق خالية تقريبا. طوت الحافلة الطّريق طيّا في اتجاه مدينة صفاقس. بدا له لوهلة أنّ صوت العجلات موسيقى صاخبة تتناغم مع أيّ لحن تشاء أن تركّبه عليها. كانت بعض الحواجز الأمنية منتصبة في مدخل قرية كوتين، ومفترق الحزام الدائري بقابس وعلى مشارف المدينة الشاسعة. تحركات الإرهابيين أصبحت تقضّ مضجع السلطات الأمنية خاصة بعد العملية الإرهابية الأخيرة ببنقردان.

بدأ مزاج السماء يتبدّل منذ الصباح الباكر. كان مغيّما وباردا لكن لم يُلاحظ هطول المطر. من حين لآخر، كانت الريح تزيح السحب إلى جهة فيرى الناظر في السماء البارزة بعد انحجاب، قرص الشمس المتسلّق لظلال الشرّق ينشر ضوءه على سطح الأرض. رائحة الطريق الطويل بدتْ مثيرة. والمطبات كثيرة، تشعرك وكأنك تخوض غمار سباقات الحواجز المرهقة.

اطمأنت الفتاة الجميلة أخيرا إلى أنه ليس لصا و لا متحرش، فاستسلمت لإغفاءة قلقة. و بقي جاره الهادئ يحدّق في الطريق دون أن يكفّ عن التّحديق في الجمال النائم أيضا. أرخت زوجته رأسها على كتفه واستسلمت للنوم. كانت تطلب منه دائما أن لا ينظر إليها عندما تنام. كانت تعتقد أنّ تقاسيم وجهها تكون صادقة عندما تفقد التحكم بها وهي لا تريد أن يعرف مدى حبها له. تخاف أن يصبح مغرورا. إنه مزيج من المشاعر الجميلة التي لا يدركها المرء إلا أثناء السفر.

قبل الوصول، فرضت الشمس نورها وهي تفترش الغيوم القطنية المتناثرة في السماء الزرقاء ، والأشجار والأزهار في احتفالية من العطر والسحر بعد شتاء بارد. وصلوا في حدود الساعة العاشرة صباحا إلى المستشفى. جلس في قاعة الانتظار مع زوجته وابنته الطالبة بكلية الحقوق، التي التحقت بهما لترافقهما، كما اعتادت، إلى مثل هذه المواعيد والعيادات. لشدّ ما كره هذا الموعد وتمنّى أن يؤجله إلى ما لا نهاية.

بدأت الهواجس تدفع برأسه المرهق إلى الماضي. سبح في عالمه والذكريات الحنونة الماضية ونظر في خيبات الحاضر. وتصوّر أنّ المستقبل سيحمل له ما يخشاه وتتحول أيامه إلى شبه صحراء قاحلة. كان يحس أحيانا أنه أمضى حياته وهو يتكلم دون مستمع، أنه كان كالمحرك يدوي على وتيرة واحدة ولا يستمع إليه أحد. عاش في طقس من المناقرات وكان انطباعه أن الايام ستسير إلى الأفضل ولكن خابت توقّعاته.

-يتبع-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

صالح بن سالم

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..