أدب أدب وثقافة

هواجس رجل تخطّى الستين -2-

 إن هي إلا ساعة من الزمن حتى عبر الطبيب البهو مسرعا حاملا تحت إبطه مجموعة من الملفّات متّجها نحو مكان آخر غير المكتب الذي استقبلهم فيه في المرة السابقة. نادوا اسمه، وكان أول المسجّلين على القائمة. أرشدته ممرضة فاتنة إلى غرفة الطبيب في آخر الرّواق الطويل. دقّ الباب ثمّ دفعه ودخل، ودخلت خلفه زوجته.

الغرفة خانقة ذات ألوان متنافرة، أضيئت قليلا ببريق ضوء النهار المتسلّل إليها. كانت شذرات من الشّمس المتفرّغة العاطلة مارقة من خلال نافذة مفتوحة. شمس متغضّنة دخلت فلم تكد تتعدّى سلّة المهملات. لاحظ علما يتدلّى من الطّابق الأعلى كأنه في تدليه أذن بائسة بلغ للتو إلى مسمعها خبر مزعج. كانت هناك طاولة تحتشد بزجاجات وقنان بلا لصاقات، ومجلّات وصحف قديمة ومسودات صور طبية. في الوسط، مكتب كبير محفوظ من الغبار بقدرة يد نشيطة. بجانب الباب، دفاتر كثيرة عديمة الجدوى، أو هكذا بدت له، ذلك أنّه كان من عادته أن يحكم على جميع الأمور التي لا يفهمها بعدم الجدوى، وما أكثر الأمور التي كان لا يفهمها.

لقد كان المحيطون به يقولون ويكرّرون أنّه يعيش في برج في السماء. و في الواقع فقد كان لا يفهم السماء، ومع ذلك يعتقد اعتقاد اليقين بأنّ السماء لا دفاتر فيها. بدا له وكأنّ أثاث الغرفة ما انفكّ قائما في مكانه منذ الأزل. كان كلّ شيء فيها يوحي بسلطة المرض والموت. لم يعجبه المكان. بدا له غير مناسب لتحديد مصيره الذي طالما انتظره. كان يتخيّل فضاء أكثر رونقا وهيبة، لكنّه انتهى بعد برهة إلى الافتراض بأنّ فوضى المكان هذه ربّما تكون استجابة لإلهام محدّد من جانب العناية الإلهية.

سلّم على الطّبيب الجالس خلف مكتبه وسلّمه التّحاليل المختلفة وصور الأشعّة التي كان قد طلبها في الموعد السابق. ثمّ جلس قبالة زوجته التي أنهكها السّفر وصعود الدّرج، فسبقته بالجلوس. دقّق الطبيب في الأوراق طويلا. تبادلا الحديث لكنّ أيّا منهما لم ينظر في عيني الآخر. كان الطبيب يستعمل للكتابة قلم حبر غليظا منتفخ الأوداج. اجتاحه شعور بالضجر. نظر إلى ساعته بدون أن يقرأ فيها الوقت. نظر إلى يوميّة قديمة معلّقة على الحائط خلف الطّبيب عليها تاريخ السنة الماضية، فخطر بباله أن في السنة عددا كبيرا من الأيام. وكان هناك إطار معلّق فوق الباب يحمل عبارة “رأس الحكمة مخافة الله”.

فحصه الطبيب فوق طاولة أُعِدّت للغرض، أشار إلى موضع الألم وطلب منه التأكد. أدار ظهره وتركه دون أن ينبس ببنت شفة. شعر “سي العايش” بإهانة تصفع صدره وساءه أن يتجاهله الطبيب. تذكّر المتنبي:”ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن..” وقام فلبس قميصه وحذاءه وجلس من جديد أمام المكتب وجسمه كالجبل ثقلا. سألت زوجته الطبيب هل يمكنه الصيام ورمضان على بعد شهرين فأجابها بأنه يمكنه أن يصوم دون مشكلة. بدا له أنّ الطّبيب اعتاد الإجابة على مثل هذه الأسئلة، لذلك كانت لهجته تحمل إقناعا وبساطة دون أن تحمل نغمَ من يقول شيئا جديدا. كان السؤال بريئا في مثل تلك الظروف، لكنه أحاله إلى حوار دار بينه وبين صديقه منذ مدّة، زميل الدراسة اليساري المكنّى بـ”الشاوش”، حين أسرّ إليه بأنّه يفكّر في كلّ الأيّام التي أفطرها زمن كان طالبا وكيف سيرجعها؟، فأجابه صديقه ساخرا:” أنا والله حاير كيفاش باش انرجّع الأيامات اللي صمتهم”. ابتسم، وكان الابتسام يجعل منه رجلا شديدا صارما.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

صالح بن سالم

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..