أدب أدب وثقافة

هواجس رجل تخطّى الستين -3-

هواجس رجل تخطى الستين – الجزء الأول

هواجس رجل تخطى الستين – الجزء الثاني

دام الأمر حوالي نصف ساعة، قرّر الطّبيب بعدها أنّه مصاب بضغط الدّم المزمن وأنّ قلبه بدأ يتعب وأنّ هناك شريانا صغيرا مسدودا لا يمكن عمليّا تسريحه، و أنّ ذلك سيرافقه طول حياته وأنّ عليه أن يتجنّب الأملاح والدّهون وأن ينضبط في مواعيد الدّواء ويمارس رياضة المشي يوميّا دون انقطاع، أن يتوقّف حالا عن التّدخين وتناول بعض السوائل ويتجنّب الإجهاد والسّهر وأن وأن وأن.. كان الطّبيب صارما رغم ما أبداه من تهوين للأمر وكان يستعين بذراعيه كي يوضّح كلامه. وكان هو يستعين بعينين جاحظتين ليسمع. اكتشف فجأة أنه عاش سليما طوال حياته، و إذا به يلتحق فجأة بنادي المرضى بدون استئذان.

كانت زوجته كثيرة فترات الصّمت، وعند ذلك كانت عيناها تنقطع عن الحركة. كانت تبدو في فترات صمتها تلك كأنّها طالبة شديدة الانتباه. سمعت كلّ شيء قاله الطّبيب، انحسرت شفتاها حتّى زالت ابتسامتها تماما. أحسّت باختناق وجفاف في فمها فطلبت شربة ماء. قام الطّبيب إلى ركن الغرفة وأحضر قارورة ماء صغيرة وكأسا. شربت وتنفّست نفسا عميقا. ساد الغرفة صمت رهيب. كان صمتا من ذلك الطّراز الذي يحار الإنسان في تفسيره. في تلك اللحظة، أخذ العلَم الذي بالطّابق الأعلى يتحرّك. انتابت زوجته حالة من اليأس وتساءلت لماذا؟ وكيف؟ كان دائما ما يستمدّ منها القوّة في مواجهة الصّعاب، لكنّها خذلته هذه المرة وانهارت قبل أن ينهار. نظر إليها وهي تطأطئ رأسها في حزن، حرّك يده حركة عريضة صوّر بها العدم، ثمّ عدّل جلسته وأدار كرسيّه بحيث تخرج زوجته من مجال نظره.

لم يعد يصغي إلى ألفاظ الطّبيب الباردة ولا إلى تساؤلات زوجته الحائرة. لقد انقطعت الأصوات من الوصول إليه. كان شارد الذهن، خارج الغرفة في مكان آخر. لاحظت زوجته شروده وانغماسه في التفكير والتّأمل فأشفقت عليه. نظرت إليه مليّا فإذا فمه الرّصين يتحرّك من جرّاء التّأثر والارتباك كأنه يغمغم دعاء الموت. تزعزعت نفسها لذلك المشهد وشكّت لمدّة لحظة في عدالة الإله. حين عادت به أعصابه، سمع كلمات جوفاء يتقيّأها الطّبيب بلا أعماق، كلمات عن الأمل، عن الشجاعة، عن العلم، عن الشّباب الدائم. كلمات فقدت كل معانيها، وأصبحت حروفها مجرّد ديدان صغيرة تلتفّ حول نفسها بلا مبرّر. ما هي الشجاعة التي يطالبه بها الطبيب؟ أن يواجه مستقبلا هو يعرف أنّه مشوب بالحرمان و الخوف! إنّ المرء يكون شجاعا طالما هو ليس في حاجة للشجاعة، لكنه يتهاوى حينما تصبح القضية جدية و حقيقية.

انتهت المقابلة. انتصب واقفا وجمع أوراقه في ملفّ كان بيده واتّجه نحو باب الغرفة، لم يعلّق بكلمة. جالت في ذهنه خواطر غريبة وهو ينزل المدرج قاصدا الباب الرئيسي المؤدي الى الشارع. تساءل في نفسه: “هل اختاره المرض من دون بقية الناس، وقدم إليه لينغص عليه عافيته؟ أم أنه هو من اختار المرض وذهب إليه بنفسه، باستهتاره بصحته وعدم اهتمامه بها، و بإفراطه في الشرب والتدخين وقلة الحركة؟ قد يتّفق أن لا يقدر الرجل الأمور حق تقديرها. قرأ ذات مرة أن مصير الإنسان إنما هو خلاصة تسلسلات حمقاء. أحسّ أنّ المرض قد تربّص به كما تتربّص أفعى عظيمة في وكرها بأعالي الجبال، تنتظر قدوم فريستها وقد اتّقدت عيناها وحشية. تلف ذنبها حول الوكر وتهمس في نفسها: “الويل لك مني، تعال إليّ فأنا أنتظرك منذ زمن!”.

أحسّ بالخوف وانتابته قشعريرة مفاجئة. كان منهارا هاته المرّة. كان قد زحف على رأسه الصلع في أعلى جبينه وبدأ ينتشر. تغيّرت حياته في إيقاعها ومساراتها ومسراتها. الأشياء الوحيدة التي بقيت فيه متحدّية الزمن هي ملابسه القاتمة التي كانت موضة زمن مضى، أما تآكل الذاكرة الذي كان يقلقه أكثر فأكثر فكان يعوّضه قدر الإمكان بكتابة ملاحظات سريعة على قصاصات متفرقة، لا تلبث أن تختلط في كلّ جيوبه كما تختلط الأفكار الكثيرة في رأسه. كان كثيرا ما يقول في لهجة تدلّ على الأسف “إنها علامة من علامات الكبر.” وكان صديقه مهدي يعلق ساخرا:”أ تتحدث عن الكبر وأنت في الرابعة والخمسين؟” لم يتجول كعادته في شوارع المدينة ولم تتسوق زوجته شيئا يذكر. قررا الإسراع بالعودة إلى بلدتهما. امتطيا سيارة الأجرة وانطلقت، وطوال الطريق كانت كلمات الدكتور تعرك رأسه وصداها يدوي في حنجرته.

كانت حياته في المدة الأخيرة تسير برتابة صامتة لا مستجدّ فيها. كان مساره اليومي منهجيا منتظما لدرجة أن زوجته كانت تعلم مكان وجوده إذا ما طرأ شيء مستعجل خلال غيابه أو سأل عنه سائل. فهو إما في العمل أو بالمقهى أو عند صديق عمره “مهدي” الذي اعتاد زيارته مرة في الأسبوع، يوم السبت عادة، إلا إذا منعه خير أو شر. ولم يعد منذ مدّة يكلّف نفسه تعب الذهاب لتفقد المزرعة التي ورثها عن والده. يومه المختلف كان يوم الأحد. ففيه يجلس بالمقهى مطولا مع صديقه “أبو الشنب” مدرس العربية صاحب الحديث الشائق الممتع. هو رجل مثقف يقرأ كثيرا، و يمتلك مخزونا كبيرا من المعلومات التاريخية ويعشق مثله الأدب والشعر. لقاءاته المتكررة به دفعته إلى قراءة كتب كثيرة لم يكن قد عرفها من قبل. كانا يتحدّثان طويلا ولا يحسان بمرور الوقت. يعود بعد ذلك إلى البيت ويلبث هناك للراحة وللقراءة ونادرا ما كان يخرج ما لم تكن الحاجة ماسة إلى ذلك. لم يعد يقبل منذ مدة أي التزام اجتماعي إلا إذا كان اضطراريا.

بدا عليه الاكتئاب لأيّام طويلة. أصبح منكسرا صامتا منزويا لا يتحدّث كثيرا كعادته، ليس لأنّه يحبّ الوحدة لكنّه فقط يتجنب التّجمّعات المزيّفة، ومع ذلك تبتهج نفسه أحيانا إزاء أي بادرة محبة أو اهتمام حقيقية ولو صغيرة من زوجته أو ابنته أو حتى من شخص آخر لا يعرفه. سأل نفسه مرارا:”هل أنت ممن يموتون قبل الموت؟” كان رجلا ضائعا وسط المشاكل وكان من ذوي الخيالات الخصبة، إلّا أنّه كان غير آبه بالآفاق التي كان يكتشفها.

-يتبع-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

صالح بن سالم

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..