أدب أدب وثقافة

هواجس رجل تخطّى الستين -4- الموت

اقرأ الجزء -1-

اقرأ الجزء -2-

اقرأ الجزء -3-

تذكّر سلطة الموت المطلقة، تراءى له مشهد موت والده بالمصحّة وهو جالس بجانبه يراقبه عاجزا لا يقوى على شيء. إنّه الموت الذي يحدث أمامك لا الموت الذي تسمع عنه. إنّ الفرق بين هذين الطّرازين من الموت فرق شاسع لا يستطيع أن يدركه إلا من شاهد إنسانا عزيزا عليه يتشبث بغطاء سريره بكل ما في أصابعه الراجفة من قوّة كي يقاوم انزلاقا رهيبا إلى الفناء. كأنما يستطيع الغطاء أن يشدّه عن ذلك الجبار الذي يستلّ من عيونه، شيئا فشيئا، هذه الحياة التي لم ندرك سرّها إلى الآن.

حينما كان والده ينتفض والأطباء حوله مشغولون بمحاولة يائسة لإنقاذ الميت، التفت هو، في حركة بائسة، وكأنّه يريد أن يكتشف شيئا لم ينتبه اليه الأطباء. أخذ الورقة المعلقة على ذيل السرير و قرأ: الاسم محمد، العمر 79 عاما، الجنسية تونسي، الضغط 9/5، دقات القلب 63. ثمّ قلب الورقة قارئا: “نزيف داخلي و هبوط في الدورة الدموية و نسبة الصفائح منخفضة جدّا”. نزلت دموعه غزيرة حرّى و عاد يحدّق إلى الوجه النّحيل الأسمر والعيون الراعبة الواسعة والشفاه التي كانت ترتجف كبحر من مياه بنفسجية. لقد دارت العيون حتى استقرت على وجهه و خيّل إليه أنّ والده يستغيث به، ربما لأنّه ابنه الوحيد أو لأنّه شاهد في وجهه فهما للرّعب الذي يعانيه. لقد بقي يحدّق به، ثم ببساطة تراخت قبضته، ولفظ أنفاسه و مات. عندها فقط انتبه الأطباء لوجوده بينهم فحاولوا تهوين الأمر عليه لكنّهم لم يستطيعوا أن يبعدوه عن تلك المشاهد الماثلة في ذهنه.

مازال صراخ أخته الوسطى وهي تبكي وتنتحب في باحة المصحّة يصدّع رأسه إلى الآن و هي ترى أباها مغادرا على عربة الموت ملفوف بغطاء أبيض. إنّه الموت الذي لا مفرّ منه. بكى في صمت، بكاء الرجل الذي يحسّ بحمل ثقيل يقسم ظهره بعد وفاة والده. تذكر كم كان يستعمل كلمة الموت للتدليل على التّطرّف، لطالما نطق بمثل هاته الجمل : “كاد يموت من الضحك” أو “لقد تعبت حتى الموت” أو “لن يستطيع الموت أن يفرّقنا”.. دون أن يدقّق في معناها.

تذكّر كيف لفظت أمه أنفاسها الأخيرة دقائق قليلة بعد أن عادوا بها من المستشفى. كانت قد فقدت بصرها منذ سنة تقريبا.  حاول بكل ما أوتي من جهد ومال إنقاذَها من الظّلام الذي نزل عليها فجأة دون سابق إنذار، لكنّ البصر لم يعد إليها بعد أن أجمع أطبّاء كبار في الاختصاص على أنّها لن تبصر ثانية. وا أسفاه! لم يكتب لها أن ترى هذه الدنيا من جديد وتفرح بمرأى السماء الزرقاء وخضرة الأشجار و أجنحة العصافير. كان يحزن إذ يراها تخطو فلا تبصر طريقها وتصطدم بأثاث البيت و تقع. عندئذ كان يهرع إليها ويحملها ويحتضنها. انتظر معجزة تعيد إليها بصرها لكنµها لم تأت. اختارت هي طريقا آخر، طريق اللحاق بزوجها في مكان بعيد، أبعد بكثير من المقبرة، لعلها تسترجع فيه نظرها بعد يأس و تستريح. ماتت على سريرها. كان البيت مكتظا بالنساء والرجال من الأقارب، لكنّ عزرائيل تسلّل وسط الزحام وأخذ روحها ثم انصرف. منذ ذلك اليوم تغيّرت حياته إلى الأبد.

استعراض ذهنه المتكرر لمشهد موت والديه جعل فكرة الموت تسيطر عليه باستمرار. قرأ في كتاب ذات مرة أنّ “أشهر ميتة في التاريخ بعد ميتة المسيح مصلوبا، هي ميتة الفيلسوف سقراط، الذي قيل عنه أنّه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. ولن يفتأ الناس إلى أبد الآبدين يطالعون الوصف الرائع الذي وصف به أفلاطون ميتة سقراط و قد شرب السّم وهو يعرف أنه سم زعاف”. تساءل بينه وبين نفسه هل سيموت ميتة جميلة خالدة؟ ثمّ سخر من الفكرة. ما أبعد سحر الجمال عن أهوال الموت! خطر بذهنه أن الانسان يجب أن يموت في مطلع عام أو يوم عيد وطني، فذلك أدعى لحفظ تاريخ موته من إنسان يموت في أي يوم آخر. حاول أن يطرد شبح الموت من ذهنه إلّا أن الفكرة كانت لا تزال تدور في جبينه. لم يكن قادرا على انتزاع نفسه من التفكير بها. تذكر قول الشاعر: “إلهي أشتهي سكرة قبل موتي / وصياح الصبية يا سكران”. فكّر وقدّر. ثم نظر ثم أدبر. ثم خرج واشترى علبا من الجعة المبرّدة. أقفل غرفته من الدّاخل وشرب إلى حدّ البكاء. ثم نام وهو سكران.

قام باكرا و مشى مطوّلا في شوارع المدينة التي يسكنها منذ خمسين عاما وكأنّه يكتشف تفاصيلها من جديد. كان من فرط حزنه كأنّه يمشي في جنازته رغم أنفه. أدرك أنّ كلّ المواعظ الجوفاء التي تعلّمها في السّنوات الماضية تبدو الآن كفقاعات صابون سخيفة شديدة السخافة. بائع الشّاي الذي احتل جزءا من مفترق طريق كان فرصة لتتدارك روحه نفسها وقلبه نبضه. كان رجلا ستينيا بشوشا. أدرك اضطرابه فقدّم له كرسيا. جلس ليلملم شتاته. امرأة في ربيع عمرها تقطع الشّارع باتجاهه متّشحة بالسواد وشاردة النظرات. رأسها متواطئ مع جاذبية الأرض تجرّ بتثاقل عربة طفل رضيع وإلى جانبها شابّ صغير لم يكمل الرّابعة عشر من عمره. يمسكها الشاب عن تجاوز الشارع لتمر سيارة مسرعة. يسارع لرفع العربة على عتبة الطريق المرتفعة ثم يلتقط يد والدته ليساعدها بدورها. يلتفت حوله ثم يلتفت صوب والدته مطمئنا إياها أنه موجود هناك بجوارها. يتابعان الطريق متجاوزين بائع الشاي، ونظراته الشاردة تلاحقهما. رفع نفسه عن الكرسي ومشى مجددا نحو المجهول.

أمضى وقته يدور في الأزقة والأنهج ويحدّق في ظله، و يدعو ربّه أن يخفّف عنه وطأة جزعه ويذهب عنه البأس ويحميه من كلّ سوء. عاد إلى منزله، أغلق الباب وراءه وجلس. هاتفه يرنّ معلنا إشعارا فيسبوكيا. لم يهتمّ لذلك. تذكّر ما قاله له صديق مرّة :”لقد أمضيت اثنتي عشر عاما من حياتي مع الماشية. فلم أر نعجة تبتئس لأن المرعى جفّ لقلة الأمطار، أو لأن صديقها الكبش راح يغازل نعجة أخرى. إنّ الحيوان يواجه الظّلام والعواصف والجوع، هادئا ساكنا. ولهذا فهو قلّما يصاب بانهيار عصبيّ أو قرحة في المعدة، كما لم يصب بالجنون قط.”

تذكّر قصصا كثيرة لأناس انتصروا على المرض بالقوّة والصّبر وشيء من الحظّ مثل صديقه “الفاضل”، لكنه تذكّر أيضا كيف أطاح المرض بأبيه وأرداه في ظرف شهور قليلة. كانت زوجته تحاول أن تدفعه إلى الحياة دفعا بتشجيعها له ورفعها لمعنوياته. كانت تقول له دائما: “احذر أن تضعف أمام مرض بسيط، لو وقعت أنت فلن تقوم لنا قائمة ولن نقوى على الحياة بدونك. أنت سندنا وعزوتنا و باعث الأمل في قلوبنا.” وكان يجيبها بلهجة مطمئنة: “لا تخافي! نحن نعيش عالما من الموت غير الجسدي. إنّه موت اجتماعي يومي قد يصل في بعض ذراه إلى ما يشبه الكابوس، و قد تعودنا عليه.”، لكنّه كان يخفي أشياء في قلبه لا تحكى ولا تشكى لغير الله. دخل عليه ابنه الأكبر وطلب منه الحضور الى المطبخ لتناول الغداء. حرّك رأسه بالرفض واسترخى على سريره. همس في نفسه: “هنا في قاع قلبي يقبع شخص قديم، هدّته الأيام مُجبرا. كنت دوما أتساءل كَيف سينتهي؟!” ردّد في نفسه الآية الكريمة: “كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والاكرام”.

هدأ الرعب في صدره فنام.

-النهاية-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

صالح بن سالم

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..