أدب أدب وثقافة

في اللغة: أتكلم اللغات لكن .. بالعربية

الكاتب: نائلة تواتي

قبل سنوات، كانت ابنة خالتي تعمل في قطر كمترجمة. تعيش مع فتاتين، واحدة أردنية وواحدة سورية بحكم العمل معهما. لا أحد يعلم عن حياتها شيئا. نتواصل معها قليلا وأكسِر أنا أحيانا “القليل” وأتوجّه لها بأهازيج الاشتياق والمزاح والسؤال. أقرأ ما تنشر وتقرأ ما أنشر بضغطة زر تدلّ على اهتمام الطّرفين. تنشر في آخر الأسبوع صورتها مع صديقاتها أثناء نزهة لهنّ. تدّعي السعادة وأنها “آنديباندنت سترونغ ومن/Independent strong woman” -وأنا أراها كذلك ولا تدّعي.

في إحدى الليالي، وأنا ساهرة، رنّ هاتفي برقم دولي بدا لي رقما خليجيا على الساعة الواحدة ليلا أو أقلّ قليلا. اضطربت ولم أكن أعرف الكثير من مفاتيح الدّول، ما عدى الدّول المجاورة -للجزائر- وبعض الدّول الأجنبيّة، مجموعة تُعدّ على الأصابع (سأعرف لاحقًا أنّ الأرقام القطرية تبدأ بـ +974). أردّ، أسمع صوت نفس، لا أتكلّم كوني لا أعرف من أيّ دولة الاتصال. ثمّ قالت لي: “نائلة أودّ أن أسألك”. صمتتُ، استرسلت في الحديث: أدركتُ أنّي أقول “مرطبان” بلهجة صديقتي الأردنية و”أطرميز” بلهجة صديقتي السّورية منذ سنتين. أستطيع أن أعدّد لكِ اسمه باللّغات التي أعرف والتي لا أعرف، لكنني اكتشفت مؤخّرا أنّني نسيت اسمه بلهجتنا الجزائرية. ماذا نقول له نحن؟ استغربت لكنّ “استغرابي يتمالك نفسه ولا يتمدد”. أحاول أن أتذكّر ماذا نقول له بلهجتنا. أتذكّر بسهولة، أقول: “نحن نقول بنّارة!” تشكرني، تقول أنّها تنسى كثيرًا. ونسيانها هذه الكلمة لم يتركها تنام.

تتكلم عن لا انتمائها لأيّ شيء، تتكلّم عن الوطن فأشعر أنني في العراء. عراء يضمّني، يظهر للعيان ولا يظهر لي. ظننت أنّ الهوية بالاستقرار فيه، وكنت بلا هوية. استرسلت أكثر حتّى أصبحنا في معضلة الأنت وهو – هو وأنت. شعرتُ أن درويش يتربّع في هذه الجلسة. ثمّ أتذكّر أنّ بيننا تأشيرة وقارّة ومحيطا  -والأولى هي الأصعب- وأنّ الأمر ليس بجلسة بل هو إشارة خلويّة تلتقط لي صورتها لنتشاكى. تقول: “ما جدوى أن نتعلّم لغات لو مسكنا بلغة واحدة ووطن؟ هل هي برطمان أم أطرميز أم بنّارة؟ لو كان لنا وطن، لما سهرت آلاف اللّيالي أحاول جاهدةً تذكّر كلماتنا المخطوفة هنا وهناك، أسند رأسي عليها لأنام فأدّعي أنني منتمية. يكفي أن نتعلّم من كلّ منظر كلمة يترجمها الجمال فقط بداخلنا. لقد فرطت وأنا في دوّامة الكلمات أضع الكلمة في ألف خانة تحت كل لغة.” تبكي، وأستمع أنا كطفل أبله لا يعرف كيف يتصرّف. تمرّ ثلاث دقائق، أدرك أنّني في مكالمة دولية. أغلق الهاتف لأنّني أعلم حتمًا أنها لا تريد سماعي وهي في أوج استسلامها.

أتساءل: “أيّ ثقب أنا فيه؟” أُدرِك اللّغة فأجدني أسترجع ما حدث معي. بدأ الأمر حين كنت أكتب نصا ونسيت كلمة لها معنى لتكتمل الجملة، ولم أجدها. فكّرت وفكّرت ماهي تلك الكلمة دون جدوى. ليتكرّر الأمر في نصوصي الأخرى. اكتشفت مؤخّرا أنّني أقرأ ثلاث كتب إنجليزية وحين أضع سماعاتي تأتي أغاني أجنبية بالصدفة. نتكلّم الإنجليزية داخل المعهد وإذا غيّرنا، نترجم نصّا فرنسيا. وإذا غيّرنا، نسمع الإيطالية. تمرّ أيّام لا أتكلّم فيها العربية وإن بقي مني شيء بالعربية، فهذا لأنّي أكتب. وإن مازلت أتذكّر كلمة مناسبة، أقفز فرحا.

العربية اليوم مثل حبيب أوّل فارقته وأدركت قيمته حين امتلكت حبيبا آخر لكن، “كلّ شيء إلاّ العربية وشاعريتها”.

لست مع أرسطو ولست مع أفلاطون ولا أدري لمن هذه العبارة: “اللغة ممارسة”، لكن أومن أنّه لولا مواقع التّواصل الاجتماعي وحسابي على الفيسبوك خاصة، والدفاتر التي تأتيني هدية، كنت نسيت الكثير من الكلمات العربية وأدوات الربط العربية والرفعات والضمات والكسرات والتشبيهات والمجازات والاقتباسات.. الاقتباسات التي أهيم بها أيّاما، أكرّرها وأودّ لو أضعها لافتات. والجمال في ما وراء اللغة. أعتقد أنّه حتّى القراءة والمكاتب والشفهيات لا تدلّل على إتقانك للغة. الكتابة هي التي تفعل ذلك فقط. والكتابة باللغة الأم كجمال الجِهاد. أشعر أن هذه اللغة -العربية- تملأ الفراغات التي بداخلي ولولا ما تفرضه الرأسمالية التي نعيشها والانحياز، لبقيت معها وما تعلمت لغة أخرى قط. ولأكملت حياتي كلّها أخاطب وأعاتب نفسي بالعربية.

أعترف أنّني أخلط كثيرًا في اللغتين الثانويتين. وأنحدر كثيرًا مع بعض المصطلحات. أسقط في تكرار كلمة فتلازمني لعشرة أيّام. في سبيل عدم الممارسة، أعترف بتقصيري، لكن هيّمتني لغتني وصارت كل المراس. أعترف أنّني أستطيع فهم معظم الفيلم باللّغة الإنجليزية لكني أحمّله مترجمًا باللغة العربية وأخفض الصوت الإنجليزي. أتحاشى التكلم بالإنجليزية في “المشاوير” مع أصدقائي وأقول عفوًا ردّا على “thank you”. أكره الاختصارات التي لا تعني لغتي الأم  مثل “you لـ u”. بحثت كثيرًا عن لغة كلغتنا ولم أجد. أعترف أنّني لن أمارس غيرها إلّا بصعوبة وأنّني أعاني كثيرًا كآينشتاين ودرويش مع اللغة. قرأت كثيرًا عن معاناتهما، وأعترف أنني أقرأ مناهجي بالعربية ثمّ أترجمها للإنجليزية.

إنّ الرجل الذي لا يحب لغته الأم أسوأ من حيوان أو سمكة نتنة. _ خوسيه ريزال

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نائلة تواتي

طالبة اختصاص أدب إنجليزي، قارئة لها محاولات كتابة لنشر الأفكار الملتوية.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..