أدب أدب وثقافة مراجعات

“من أجل الخبز وحده”: عن ثلاثية محمد شكري التي صالحتني مع واقعي

الكاتب: نهى سعداوي

لكي نقهر فكرة الموت لا ينبغي لنا أن نتصور أنفسنا ميتين. إنه مصيرك مع نفسك. لا يخص أحدا ولا تنتظر من يواسيك. اعتبر نفسك خالدا ولو في الوهم. لا يَقهر الموت إلّا حبّ الحياة. ــ الشطار

ثلاثية محمد شكري “من أجل الخبز وحده” من الكتب التي غيّرت حياتي أو نظرتي لحياتي، وربّما الأصحّ أنّ محمد شكري نفسه الذي فعل عبر كتابته. محمد شكري هو فتى مغربي نزح قبل بلوغه العاشرة من قرية في سلسلة جبال الريف شمالي المغرب نحو مدينة طنجة وهو لا يتكلّم بعدُ لغة غير لغته الأم: الأمازيغية، ليشتغل صبي مقهى وماسح أحذية وبائع جرائد ومهربا، حاملا في صدره حقدا على والده وغضبا من حاله واستخفافا بكلّ خطر. يكبر الفتى ليقرّر أنّ له في الحياة مسلكا غير هذا، يقرر أن يتعلّم ويدرس اللغة العربية، العلم هو السبيل لحياة غير التي ألفها. كانت الكتابة بمعناها المباشر، أن تكتب، أمل هذا الفتى من الطبقة المسحوقة. والكتابة صنعت مجد محمد شكري.

شحنني محمد شكري بطاقة كبيرة وجعلني أرى في واقعي تفاصيل كثيرة فيها من الجمال الكثير. بـ “الخبز الحافي” جعلني أنظر لموقعي في السلم الطبقي بشكل مختلف. لقد صالحني باختصار مع نفسي وحياتي وواقعي، مع كلّ ما رأيته في ما مضى عيبا ونقيصة. منذ قرأت الكتاب، ولو أنّي أظنني تأخّرت في قراءته، أعلنت محمد شكري، كاتبي الأقرب لي. كقارئة، لابدّ أن يحلّ الكاتب الذي أقرأ له من نفسي محلّا، فأبحث دائما في نهاية الرواية عمّا قد يجمعني بصاحبها وقد كنت عادة أكتفي بالبحث عن تقاطعات مع الأبطال. لعلّي أصبحت أكثر طموحا لأكون واحدة من عالم الكتّاب، فعالم الشخصيّات مكتظّ بالمريدين.

الكتب والكتابة هما المنبعان اللذان لا ينضبان منذ انبثاقهما في حياتي. […] يخلصانني من الرؤية ويقودانني نحو الرؤيا، نحو الغربة الجوانية. ــ وجوه

تصنّف الثلاثية ضمن أدب السيرة الذاتيّة، سيرة ذاتية فجّة ووقحة أحيانا ولا تراعي تابوهات المجتمع العربي ولا تعبأ بها. ليس الأمر تحدّيا أو هو نتاج فكر الكاتب ورؤيته، بل هي الصّراحة والصدق الذي لا يجمّل الحقيقة. يحدّثك محمد شكري عن طفولته وشبابه بلا مواربة وتجميل، يخبرك تفاصيل قد تراها أحيانا غير ضروريّة لحميميّتها، لكنّه لا يخجل من شيء وليس لديه ما يخاف انكشافه.

أحببت طنجة-المغرب بسبب هذه الثلاثية رغم أنّها تنتمي لعالم طنجة السفليّ، بفقره وأمراضه ودعارته وأزقّته الملتوية، لكنّ طنجة البحر أيضا، وطنجة حبيبة محمد شكري التي كبر فيها أمّيا لا يقرأ ولا يكتب حتّى مراهقته. هنا تتبادر للذهن تساؤلات: كيف لفتى فكّ الخطّ في مطلع شبابه أن يصبح كاتبا وشاعرا قديرا؟ أ يُعقل هذا؟ كيف يتمكّن من اللغة والكتابة متأخّرا ويبدع، فيما غيره على علمه وسعة اطلاعه تعوزه اللغة وتحول دونه ودون مشاركة تجاربه وأفكاره؟ ستجد إذ تقرأ الثلاثية أنّ هذا ممكن، وستجد أنّ من يملك عيونا تسجّل ما حولها وتخزّن التفاصيل وذهنا متّقدا حاضرا لابد أن يكون مبدعا. ستجد أيضا أنّ الكتابة والكتب مثّلت خلاصا لمحمد شكري من عذاباته.

لكي أصبح أبا لابن عليّ أن أتزوج. لقد عزفت عن الزواج لأني أخشي أن أمارس على من ألد نفس التسلط والقهر اللذين مورسا عليّ. لهذا أنا أخشى أن يكون لي مولود. فأنا لا أثق في نفسي. ــ من حوار للكاتب

الجزء الأول من الثلاثية بعنوان “الخبز الحافي”، يليه “الشطار” أو “زمن الأخطاء” ثمّ “وجوه”. أنصح بقراءة الأجزاء الثلاثة لتكتمل الصورة والحكاية بمشاركة الكاتب كل مراحل حياته من طفولته القاسية الذي وسمها أب قاسٍ قتل ابنه، مرورا بشباب ضاج بالحياة، مليء بالمغامرات وصولا لكهولة فيها الشهرة والسفر والوحدة. “من أجل الخبز وحده”، هي حكاية الفقير الذي نشأ والخبز الحافي همّ يومه، ليكبر ويخبر العالم عن عالمه الصغير الذي بصم شخصيّته وحماه من خيلاء العظمة الذي يصيب الكثير من الكتّاب.

رسخت في ذهني مقتطفات من الثلاثية لأسباب مختلفة، سجلتها مع ملاحظات حولها. أعرضها في ما يلي. تتواتر في رواية “الخبز الحافي” عبارات جعلتني أعجب أيما إعجاب بخيال الكاتب وباعتماده على خياله لبلوغ ما لا يستطيع بيده أو جسده. جعلني محمد شكري بعباراته التالية أشعر بسرور غريب، جعلني أحب خيالي وأعتقد في قدراته.

“صياد يأكل فطيرة محشوة. آكلها معه في خيالي.”

“مات أبي في خيالي كما مات خصم البطل على الشاشة. هكذا تمنيت دائما أن أقتله.”

“فيما أنسى همومي. سآكل الدجاج بالجلبانة في خيالي.” 

 

حين قرأت المقتطف أدناه في “الشطار”، وجدتني أسجّل ملاحظة في ما يلي نصها:”هذا المحمد شكري، كيف عبّر عن فكرتي بكل هذه السخرية اللذيذة؟ أخيرا وجدت من يشاركني السخرية من الكتاب البرجوازيين وكتاباتهم “الرومافكرفلسفاستيطيسريافيزيقية” (رومانسية + فكرية + فلسفية + استيطيقة + سريالية + ميتافيزيقة، على سبيل الخلطة العجيبة). هذا الرجل من طبقتي، من فكرتي، من بساطتي أو أني منه وإن بحدّة أخفّ سببها ربما الفارق الزمني. هذا الرجل البائس الحي قليل الحظ بما عانى كثيره بما عاش، أحبه.”

أنا لا أعرف كيف أكتب عن حليب العصافير، واللمس الحاضن للجمال الملائكي، وعناقيد الندى وشلالات الأسد والعندلات. أنا لا أعرف كيف أكتب وفي ذهني مكنسة من بلور. المكنسة احتجاج وليست زينة.

ستجدون في الجزء الثالث “وجوه” تفاصيل عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش والكاتب اللبناني إلياس خوري، اللذان التقاهما شكري في ندوات شعرية ومناسبات ثقافية. ولعل ما يرويه عن درويش -خاصة- كفيل بإحداث رجة في الصورة “القزوردية” التي ترتسم عنه في أذهان معظم قرائه وخلق حافز للبحث أكثر في الموضوع. يقول محمد شكري:

[…] حدث بيننا في فندق سولازور منذ سنوات في طنجة. مازحني صديقه -أي صديق إلياس خوري- الشاعر محمود درويش حول الفحولة التي يتزعّمها أحيانا مثل البلاي بوي أينما يكون. صفّق له إلياس وكنت أنا ضحيتهما في ذلك المشهد الصباحي. ذهبت لأوقظهما لأن درويش كان سيقرأ شعره مع شاعرين آخرين مساء في الرباط. سألني وهو يتعطر إن كنت أملك فيللا في “الجبل الكبير” فقلت إنني لا أملكها. قال إنني لم أعرف كيف أغتني رغم أني عرفت “جان جنيه” و”تينسي وليامز” وكنت خليلهما أو شيئا من هذا القبيل. قلت له ربما هو الأشطر والأغوى مني فنقتسم الغنيمة إن شاء أن أقوده حيث يفحل.

تعرّض محمد شكري لنقد كبير و”صنصرة” ولم تنشر أوّل كتاباته بالعربيّة إلّا بعد زمن من نشرها بالفرنسية. وقد حُوّل كتابه “الخبز الحافي” لفيلم، ستجده للأسف على النت مع عبارات “فيلم مغربي للكبار فقط”، (+18)، (+21)، “الفيلم الممنوع”. ربّما كان الفيلم تجسيدا للرواية وهي كما أسلفت فجّة، لكنّ القراءة برأيي ستخلق رابطا إنسانيا يجعل الفجاجة مستساغة وطبيعية خاصة إذا كان القارئ واقعيّا وغير طوباوي أو شديد التّديّن. سأظلّ دائما شاكرة للصديق الذي دلّني على محمد شكري وأدبه.

من نص الحوار في المقتطف من الفيلم:

– الذي يعرف القراءة و الكتابة لن ينسى أبدا.
– ينسى ماذا؟
– هاته الأشياء التي تسكننا، و نخفيها! التي تختبئ داخلنا.. في قلبنا.. ولا أحد قادر أن يلمسها. لا أحد قادر على سرقتها!
– عن ماذا تتحدّث؟
– أنا أُحدّثك عن الأمل!

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نهى سعداوي

تونسيّة، متحصلة على الماجستير في اللسانيات الانجليزية. مهتمة بالترجمة ودعم المحتوى العربي. هاوية كتابة. مناصرة للقضية الفلسطينية، لقضايا العرب والمسحوقين أينما كانوا.

2 Comments

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..