تاريخ سياسة و مجتمع

قبل الحديث عن استقلال تونس ، كيف مهّد فقدان السيادة الوطنية للاستعمار الفرنسي؟

الكاتب: حسام طوبان

تقديم

في مثل هذا اليوم قبل 61 سنة، انتزع الشّعب التّونسي الاعتراف باستقلال تونس و إلغاء العمل بفصول معاهدة الحماية بعد 75سنة من الاستعمار الفرنسي الذي مهدت له ظروف سابقة كانت تعيشها تونس في ظل فقدان السيادة بداية من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. فالاستعمار المباشر كان نتيجة فساد دولة وسوء إدارة وتنظيم استغلته فرنسا لعقود لتتم شرعنة هذه السيطرة بنص قانون دولي في 12 ماي 1881.

كيف وصلت تونس مرحلة الاستعمار الفرنسي المباشر؟

مجموعة عوامل مباشرة، شبيهة بما تعيشه الجمهورية التونسية اليوم، أفقدت الدولة التونسية سيادتها وجعلتها تحت رحمة الاستعمار الفرنسي المباشر.

طبقة سياسية فاسدة

نذكر من بينها وزراء كمصطفى خزندار، نسيم شمامة، مصطفى بن إسماعيل وغيرهم. كان هؤلاء من أكبر مسؤولي الدولة ومن بطانة البايات الحسينيين. مجموعة من الأعيان وأصحاب النفوذ ضعيفي التكوين، كلّ همّهم خدمة مصالحهم الشخصية وإن على حساب الدولة والشعب. أغرقوا البلاد في القروض واقتطعوا منها جزءا هاما ذهب لحساباتهم المصرفية الخاصة، لتصل لتونس منقوصة -أحيانا ثلثيّ القرض يذهب في جيوب هؤلاء الوزراء قبل أن يصل لخزينة الدولة- بتواطئ من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا.

استغلت هذه الطبقة الحاكمة بؤس المجتمع -وهي سبب فيه- لتقنع الباي بالموافقة في كل مرة على قرض جديد يُسرق منه ما يُسرق ويُرصد الباقي لأشياء بلا فائدة ولا مردودية. استغل هؤلاء الأزمات والانتفاضات للمطالبة ب”إصلاحات” تخدم في واقع الأمر المصلحة التجارية والمالية للأجانب. فقد استغلّوا ظروف الشعب الصعبة للمطالبة بإصلاحات قانونية (قوانين تسهل التغلغل المالي الأجنبي وتحميه، أكثر من أنها تخدم البلاد) وإصلاحات مالية كالزيادة في الآتاوات مع مزيد من القروض. كما أقنعوا الباي بالترفيع في الأتاوة سنة 1964 ما أدّى لقيام  انتفاضة شعبية قادها علي بن غذاهم، نتيجة لهذا الإجراء. وأقنعوه أيضا بإلغاء العمل بدستور 1961. كانوا وزراء ومسؤولي دولة برتبة سمسارة يلهثون وراء الاستثمار الأجنبي والمعاهدات التجارية للحصول على عمولات ماليّة بغض النظر عن مدى نجاعة و فائدة هذه الإستثمارات.

تيار إصلاحي ضعيف

كان ضعف رجال الإصلاح في الدولة من عوامل فقدان السيادة في تونس قبل الإستعمار. فقد كانوا رغم تكوينهم وثقافتهم وحبهم للبلاد أقرب إلى منظّرين منهم إلى رجال الدولة، باستثناء أحمد بن أبي الضياف الذي لم يكن ذا تكوين عسكري. في المقابل، رغم بلوغ خير الدين التونسي والجنرال حسين ورفاقهم أعلى المراتب العسكرية والسياسية في الدولة، فإنهم في لحظة الحسم -أصبح الأمر بيدهم بعد أن أصبح خير الدين باشا وزيرا أكبر للدولة قادرا على قطع دابر بطانة الفساد والعمالة- افتقروا للشجاعة وفضلو القيام بإصلاحات جزئية في عدة مجالات كالفلاحة والتنظيم الإداري والتجارة و التعليم.

لم يعمل الوزير الأكبر على استئصال البطانة الفاسدة من جذورها، رغم توفّر أسباب القوة المادية لديه فهو يمثّل ثاني سلطة في الدولة بعد سلطة الباي. ونتيجة لهذا عادت هذه البطانة للعمل في أعلى مراكز الدولة واستردت نفوذها، ليأخذ عديم الكفاءة والتكوين مثل مصطفى بن إسماعيل مكان خير الدين وزيرا للدولة، قبل دخول الاحتلال الفرنسي بثلاث سنوات. ثم تمر 75 سنة من الاستعمار المباشر، دفع فيها الشعب التونسي ثمن سوء التصرف والإدارة، والفساد وضعف النخب الوطنية والتفريط في السيادة، حتى وصلنا لتاريخ 20 مارس 1956، وتوقيع بروتوكول الاستقلال الذي ألغى العمل بإتفاقية “الحماية”.

كيف فقدت تونس سيادتها وكانت جاهزة للاستعمار؟

يمكن اختصار مفهوم السيادة في ذلك العصر في “التوازن المالي” القائم على السيطرة التامة على الموارد والتحكم في وسائل الإنتاج والترويج من قبل رؤوس الأموال التونسية، بدون الحاجة للتدخل الأجنبي. يستوجب هذا أن يكون الاقتصاد الوطني محميا عبر أحزمة من رؤوس الأموال والمؤسسات المالية الوطنية التي تسيطر على العمليات الاقتصادية من تحويل للموارد إلى إنتاج فترويج فتسويق، دون الحاجة إلى تدخل مالي أجنبي تحت أي مُسمى كالاستثمار أو القرض أو الشراكة. و هذه أولى خطوط مناعة الدولة ضد فقدان سيادتها.

الكوميسيون المالي وفقدان السيادة

بالنسبة لتونس، بدأ فقدان السيادة منذ بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالتسرب المالي، وذلك عبر الاستثمارات الأجنبية والقروض اللتي استفحلت مع التشريعات التي كانت تحمي مصالح المُقيمين الأجانب وتعطيهم حقوقا أكثر حتى من التونسيين في بلادهم. ثم استفحل أمر القروض حتى وصلت الدولة للعجز التام عن سداد ديونها التي بلغ حجمها 125 مليون فرنك. فكان على الدول المُقرضة ضمان استخلاص ديونها بنفسها، وهكذا تأسست اللجنة المالية الدولية أو ما يُعرف بالكوميسيون المالي -نهج الكوميسيون بالعاصمة التونسية سمي كذلك لوجود مقرّ هذه اللجنة فيه- سنة 1869 وحدد لها رسميا قانون سنة 1870. ضمت اللجنة مجموعة من الأوروبيين من مختلف جنسيات الدول المُقرِضة. واستلمت مالية الدولة التونسية وكانت على امتداد 25 سنة تقريبا تمثل وزارة مالية فعليا، إذ تدير وتتصرف في المداخيل المخصصة لتسديد الديون وتراقب موارد الدولة مراقبة مباشرة. كما قسمت مداخيل الدولة إلى قسمين، خُصص القسم الأول لنفقات الدولة والثاني يُقتطع لتسديد الديون. ولم يكن الباي يستطيع أن يُبرم أي إتفاقية قرض أو منح أو امتيازات دون موافقتها.

إذا، سنة 1870، فقدت تونس رسميا سيادة قرارها بفقدانها التحكم في مواردها وماليتها وأصبحت ترجع للجنة الدولية في كل إجراء. وهكذا تعتبر معاهدة 1881 تقنينا لحالة التبعية هذه وتخصيصيها لفرنسا. معاهدة الحماية سنة 1881 لم تكن البداية، وإنما كانت رصاصة الرحمة لدولة فاقدة للسيادة واستقلالية القرار ينخرها الفساد وتغليب المصلحة الذاتية على المصلحة الوطنية العامة.

السيادة التونسية اليوم

اليوم، تدخل تونس للأسف مرحلة فقدان السيادة التي كانت تعيشها قبل الاستعمار الفرنسي. فما حصل حين دخلت تحت وصاية الكمسيون المالي شبيه بما يحصل اليوم وإن بدرجة أقل مع توصيات البنك الدولي الذي يفرض علينا إجراءات  قاسية ليتمكن من استخلاص ديونه من تونس، فيما تصبح مؤسسات الدولة التونسية مجرد ديكور لإعطاء الصفة القانونية ومحاولة تبرير بعض القرارات كالترفيع في الضرائب أو استيراد البذور الأجنبية كالقمح الأمريكي أو رفع الدعم.

إن الوعي بمسألة السيادة في تونس اليوم مُنعدم، لأننا لا نفرق بين السيادة والاستقلال  والحد الفاصل بين السيادة والتبعية وبين الاستعمار والاستقلال. السيادة ببساطة، أن نكون أسيادا في بلادنا وفي مجالنا الإقليمي. الدولة ذات السيادة هي الدولة القوية اقتصاديا و عسكريا، المتشبعة بثقافة شعبها عاملة على نشرها في العالم. وليست الدولة المتسوّلة الضعيفة المُتذللة للأجانب.

الخاتمة: الدرس الذي يجب استيعابه اليوم

نعم حصلنا على الاعتراف باستقلالنا، لكن الاعتراف بالاستقلال وحده لن يعيد لنا سيادتنا، التي تحتاج أن نعيدها نحن بأنفسنا ونحميها ونحصنها من أي تعد. واستعادة السيادة لا يكون عبر الترحيب بالهبات والقروض والاستثمارات الأجنبية، والسكوت على تجاوزات السفير الفرنسي هذه الأيام، والمراهنة على قطاع السياحة الهش الذي تذهب أغلب أرباحه للبنوك الأجنبية إضافة لما ينتج عنه من مضار مدمرة على البيئة والمائدة المائية والفلاحة التي تعاني التهميش رغم أنها أهم قطاع حيوي يمكن أن يحفظ لنا كرامتنا. إن ما يواجهنا اليوم وماهو مطلوب منا، هو عملية بعث جديدة، وعصر نهضة جديد، وإصلاح قيمي وفكري يغرس في التونسي الثقة في نفسه وفي مستقبله، بالتوازي مع الإصلاحات الاجتماعية والقانونية والاجتماعية وغيرها. وشعارنا في هذا: “الصعب ليس مستحيلا”.

تحيا تونس!

المراجع

  • أحمد عبد السلام، مواقف إصلاحية في تونس قبل الحماية
  • ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان
  • جون ڨانياج، أصول الحماية الفرنسية على تونس 1861 – 1881

تدقيق لغة وصياغة: نهى سعداوي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

حسام طوبان

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..