أدب أدب وثقافة

ذكريات “الگِصاص”والانتماء.. عن جني التمر في العراق

ألف نخلة في البستان تُشبه في تطاولها سيقان من اجتمعوا للصلاة. صغيرةً جدّا أتسلّل بين الصّفوف لأصلّي مع جماعة يأمهم عمي بصوته المتهدج الأجشّ. أحدّق في كعوبهم. يطيل عمي الصلاة فالمدّ بخمس حركات لن يُقرأ بأربعة والحرف له حقّه ومستحقّه. كنت أتثاقل صلاة الفجر معه و أختلق الأعذار. ذات مرّة أخبرت أبي أنّي لا أستطيع الصّلاة كوني أشعر بالغثيان. وحين كان جوابي: “لا أعلم عن السبب”، قال أبي: “تشعرين بالغثيان بسبب الصلاة؟ عيب عليــك!”

كنّا نزور بيت جدّتي غالبا في الأعياد، المناسبات، أوقات جني التمر (الگصاص بلهجتنا العراقية)، لكن ذلك لم يمنع جدتي من حشو رأسي بكل ما يتعلق بالأرض وما عليها. تتدلّى أعذاق التمر من نخيلها كأقراط الغجريات. يبدو منظرها كافيا ليعطي من يراها تصورا عن طبيعة ثمرها. فهذه (زاهية) وتلك (مكرمشة) وأخرى (محشفة) حسب حالة التمر فيها. كلّ ذلك يُعرف من نظرة إلى بداية ثمرها (الچمري) الذي سيتحوّل فيما بعد إلى تمر أصفر (مْنَجِّد) ثمّ إلى تمر ناضج .

من الممكن استباق نضج التمر بقطف بعض من التمر الأصفر بحذر ثم فرشه في إناء عريض (صينية) ورشّ الرماد فوقه وتعريضه للشمس فوق سطح البيت -تماما كما يُعرض معجون الطماطم الذي كان يُصنَع أوقات الحصار-، وذلك كاف لإنضاج التمر بسويعات قليلة.

جني التمر (الگِصاص) عملية متعبة يقوم بها الكثير من العُمّال الرّجال والنساء. يصعد العامل (الصاعود) إلى قلب النخلة. يستعمل في الغالب أداة تسمّى ( التِبَليّة). وهي عبارة عن مسند لظهر الصاعود يتّصل بقوس من الحديد يطوّق النخلة وجسم الصاعود. يقوم بتحريك القوس والصعود بضع خطوات حتى يصل للأعلى، بينما تقوم النساء (الطواشات) بجمع التمر المتساقط وتفريط الأعذاق ثمّ جمعها في أكياس بلاستيكية لنقلها وتصفيتها (بسلها) ثم بيعها بعد عزل الهدايا (الصوغات) منها.

ألفُ نخلة في البستان كلٌ تختلف عن الأخرى، لا تُشبه أحداها الأخرى. تُسمّي جدتي النخلة متعبة الجذع (خاشعة) وذلك هو الوصف الملائم لوجوه من يعمل في جنيها. نساء يعملن من أجل علاج أو دراسة أو لقمة. تُحددهنّ جدتي قبل كل موسم بأكثرهم حاجة. تُكرمهنّ و تُغدق عليهن العطايا ويعبرن عن امتنانهن لها حد البكاء.

رأيتُ الكادحين، انتميت لهم وتبرّأوا مني. مالذي يفاضل بين شخص وآخر؟ مالذي يمنعني من أن أكون غيري؟ و أعمل عمل غيري؟ نعم، هي أرزاق وزّعت وجفّ عليها الحبر، لكن مالذي يجعلني أنا؟

أذكر مرّة اصطحبتني فيها جدتي أثناء العمل. كنت صغيرة متأنقة، سلّمت على النساء العاملات وتقدمت كي أصافحهن. دفعتني إحداهن برفق واعتذرت لأن ملابسي ستتخ. شعرت بقلبي يتشقّق ويصبح كيديها المتشققتين. لم أبالِ.. صافحتهن، ثمّ جلست بعيدا أنظر لأعذاق التمر تسقط من أعلى وأتعجب من سرعة الأصابع التي تجمعه.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

أسماء الدُليّمي

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..