علوم

اليوجينيا أو إبادة البشر بدعوى تحسين النسل

يحفل تاريخ البشرية بالعديد من المآسي التي قام بها البشر على البشر أنفسهم. ولعلّ أكثرها وضوحا الحروب التي تُشنّ باسم الدين حينا والوطنية أحيانا، لكن ماذا لو كانت هذه المرّة تحت غطاء العلم وعلى شركاء الوطن والأرض أنفسهم؟ هذه الحرب اسمها اليوجينيا.

“شجرة اليوجينيا” أو “شجرة تحسين النسل” التي وضعها وعمّمها المكتب الوطني الأمريكي لليوجينيا (1921)، شعار بارز ووصف مفاهيمي لحركة تحسين النسل أو اليوجينيا

جذور اليوجينيا

بدأت هذه المأساة بالتدخل البشري في العملية الطبيعة لتوالد الخِراف. فقد شهدت بريطانيا ثورة زراعية في القرن الثامن عشر أدّت إلى تطبيق استيلاد انتقائي لأفضل أفراد القطيع، منتجة حملانا بدينة وسريعة النمو وذات صوف طويل، ولكن لم يكن ذلك سوى الهدوء الذي سبق العاصفة. ففجأة ظهر آثار جانبية على “سلالة سيفولك” أدّت بتلك السلّالة في نهاية المطاف للموت!

شملت الأعراض خدش الأرض بالحوافر، التّعثر والجري بطريقة عجيبة مع نفور من بقية أفراد القطيع وكأنّها أعراض جنون. عُرف هذا المرض فيما بعد بـ “الراعوش“. وكان يقتل نعجة من كلّ عشرة نعاج. ولأنّ المصائب لا تأتي فرادى، تسبّب عالم بيطري في تفشّي الراعوش في ثلاثينيات القرن العشرين في بريطانيا لاستعماله لقاحا مصنوعا في جزء منه من أمخاخ الخراف. وتطور الأمر لينتقل للبقر بوساطة الأعلاف الملوّثة التي كانت تحوي في أجزاء منها بقايا من لحوم وعظام تلك الخراف المصابة. فكانت النتيجة تلَف 180 ألف رأس بقري بما يعرف بجنون البقر. القطط كانت ضحية هي الأخرى لالتقاطها العدوى من اللحم ومسحوق العظام نفسه الذي كانت تتناوله الأبقار مما أدّى لنفوق أكثر من سبعين قطة أليفة.

أصدرت الحكومة البريطانية وقتها تشريعا يقضي بحظر تناول لحم أي بقرة يتجاوز عمرها الثلاثين شهرا. وأمرت كذلك بذبح مائة ألف رأس من الماشية كإجراء احترازي. وبحلول العام 1992، كان قد حُلّ الجزء الأكبر من مشكلة البقر.

اليوجينيا على البشر

المؤسف أن تلك النتائج الكارثية التي وقعت لم تردع فرانسيس جالتون من الدعوة إلى تطبيق هذه الفكرة على البشر. وفي عام 1855 وُضِع مصطلح “الاستيلاد اليوجيني” كوصف لهذه العملية. وما إن حلّ العام 1900، حتى انتشرت هذه الفكرة كانتشار النار في الهشيم. وأضحى اسم يوجين شائعا بين العامة وبدأت الدول في سن الأنظمة والتشريعات لتطبيق “اليوجينيا” في سبيل الزعامة القارية. ولم يمضي العام 1917 إلّا وقد سَنّت 15 ولاية أمريكية قانونا يقضي بالسماح بالحرمان الإجباري من الإنجاب (التعقيم) لمن أسمتهم ضعاف العقول.

إنها ذروة الغباء أن نتحدّث في حالات كهذه عن الحريّة الفردية فمثل أهؤلاء ليس لهم الحق في نشر سلالتهم.

هكذا برّر أحد الأطباء الأمريكيين يدعى دبليو جي روبنسون لهذا القرار. وبحلول العام 1935 كانت أمريكا قد “عقّمت” ما يزيد عن المئة ألف شخص في ولاياتها المختلفة.

ملصق دعوة لتحسين النسل “اليوجينيا” من معرض بمناسبة الذكرى المئوية لفيلادلفيا سيسكوي، 1926

كقطع الدومينو، يكفي أن تسقط إحدى القطع حتى تتساقط الأخرى تباعا، كانت حصيلة السويد ستّين ألفا، وأجازت النرويج وفنلندا وآيسلندا وإستونيا قوانين بالتعقيم القسري واستخدمتها، أما ألمانيا فكانت الأسوأ سمعة بتعقيمها 400 ألف شخص. ولم تكتفي بذلك بل قتلتهم! وأثناء الحرب العالمية الثانية أعدمت سبعين ألفا ممن كانوا في المصحات العقلية؛ لغرض إخلاء الأسرة للجنود الألمان.

مواقف متباينة من اليوجينيا

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فيبدو بأن “اليوجينيا” تسلّلت حتى لأفكار أشهر الأدباء. ففي مسرحية جورج برنارد شو “الإنسان والسوبرمان”، وردت هذه العبارة على لسان إحدى الشخصيات:

لأنّنا جبناء، نبطل عمل الانتخاب الطبيعي تحت غطاء حب الإنسانية، ولأننا كسالى، نتغافل عن الانتخاب المتعمّد تحت غطاء من الرقة والفضيلة.

أمّا هربرت جورج ويلز، فقد كانت عباراته أكثر وضوحا وأشد قسوة. نذكر منها:

إنّ جحافل السّود والسّمر والصّفر يجب أن تختفي.

ولنا أن نتصوّر مدى تغلغل هذه الفكرة في عقول معتنقيها، حين تصرّح  مارغريت سانغر، وهي ممرضة يفترض أن تكون من أبعد الناس عن هذا التيار لكونها تقضي وقتها بالتخفيف من آلام الناس ورعايتهم، قائلة:

أرحم ما تفعله الأسرة الكبيرة لواحد من أطفالها، أن تقتله انطلاقا من مبدأ حق التضحية بالآخر.

من العجيب أنّ بريطانيا التي تعود جذور الفكرة لها لم تسنّ قانونا يمنح الحكومة الحق في التعقيم الإجباري لمواطنيها -لعل تجربتهم مع الخراف كان لها أثر- إلا إن هذا لم يمنع بعضا ممن تأثّروا باليوجينيا من السعي لتشريع هذا الأمر. وكان ونستون تشرشل رئيس الشؤون الداخلية آنذاك واحدا من هؤلاء. فقد كتب إلى رئيس الوزراء هربرت أسكويث بضرورة سن قانون يوجيني عاجل. وبالفعل ظهر “قانون العجز العقلي” الذي يحظر تناسل ضعاف العقول ويقضي بعقاب من يزوّج الذين يعانون عجزا عقليا، إلا إنّ عضو البرلمان جوسيا ويدجوورد المعارض لليوجيينيا وقف بشدة في وجه هذا القانون ولم يسمح بتمريره. فسُحب وأُعيد إصداره في العام التالي بشكل أقلّ حدّة مع حذف الجزء الخاص بتنظيم الزواج وحظر التناسل.

خاتمة

على أيّ حال، مازالت اليوجيينا تنبض ولم تمت بشكل تام. فحين نقرأ عن جينات الذكاء وفحص الأجنة واختيارها، ما هذا إلّا نفحة من نفحاتها. ففي الصين وبحسب قانون رعاية صحة الأم والطفل، يعطي هذا القانون الحقّ للأطبّاء بالإجهاض الإجباري عند الضرورة وليس للآباء أيّ حقّ في منع ذلك. اليوجينيا واحد من الأمثلة على الجرائم التي وقعت للإنسانية والتي استخدم بها العلم بطريقة سيئة.

    المراجع:

  • مات ريدلي، الجينوم
  • منير عكش، أميركا والإبادات الجنسية

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

محمد علي مهيوب

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..