مجتمع

عن وهم الاستثناء .. “كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء”

الكاتب: نهى سعداوي

بدأ الأمر منذ تفتّح وعيي في بدايات الطفولة حين أدركت أنّني أشبه أمي وعمتي وجدتي ولا أشبه أبي وعمي وجدي. انتبهت لكوني أشبه نوعا بشريا دون الآخر لتتولد عندي رغبة أن لا أكونه. شعري طويل، نعم. تلبسني أمي فساتين، نعم. لكنّي كنت أرغب أن أكون الآخر وقد ساعدني أبي نوعا ما لأبني فكرة أنّي الاستثناء. لا أذكر تنانير كثيرة لبستها، لكني أذكر سراويل “الشوينغوم” الرياضية الحمراء والزرقاء التي كنت ألبسها. أذكر السراويل التي يشتريها لي أبي في العودة المدرسية وفي الشتاء. الملابس بمثابة رحلة الشتاء والصيف، يأخذني فيها أبي ويعود بي أقرب للأولاد من البنات، دون أن ننسى رحلات الحلاقة. فقد أخذني مرتين لحلّاق للرجال قصّ شعري، مرة “ترافولتا” في السادسة ومرة “إيتاليان” في الحادية عشر.

في المدرسة، كنت ألعب أكثر مع الأولاد. أركض وأتعارك وأشاغب ولا أهدأ أبدا. أسمع حديث صديقاتي عن الدورة الشهرية والتكليف بالصوم، وأفرح. فأنا لن أصوم مثلهن. أسمع من النسوة عن امرأة لا تنجب أطفالا لأنّ الدورة لا تزورها كلّ شهر، وأفرح. أنا أيضا لن تأتيني الدورة ولن أحمل في بطني أطفالا. لا تنانير كثيرة، لا دورة، خشونة وسراويل.. هكذا تصوّرت أنّي لست ككلّ الإناث، بل كنت أرفض أن أكون أنثى. كنت أظنّ أنّي استثناء، وكأنّ الأمر لعنة اصطُفيت للنجاة منها. هكذا خيّل إليّ.

ثمّ جاءت السنة التي ارتدت فيها كل البنات تنانير “كاسندرا” والسراويل الضيقة جدا. كنّ أنضج مني وقد بلغن، وكانت التنانير تناسبهنّ والسراويل الأنثويّة، أمّا أنا فقد قضيت أكثر من نصف اليوم مع أمّي في محاولة لإيجاد تنورة تناسبني أو سروال. لم تناسبني أصغر مقاسات التنانير حتى، فأنا “طفلة”، أمّا السراويل الضيقة فلم أستوعبها كما أنّ ضيقها الشديد خوّف أمّي من غضب أبي إن لبستها. في نهاية المطاف، اشتريت تنورة تشبه تنانير “كاسندرا” لكنّ مقاسها كان كبيرا عليّ ما اضطرني لشدّ خيوطها لأقصى حد ممكن. مع التنورة اشتريت قميصا رأيت مثله ملتصقا بجسد الدمية العارضة وبأجساد زميلاتي البالغات، لكنّه كان كبيرا عليّ. اشتريت الاثنين وعدت للبيت وأنا غاضبة من أمي، لم أعتد أن تتسوّق هي معي. يومها، كرهت أنّ جسمي مختلف ونبذت قليلا فكرة الاستثناء.

من الطريف أنّ التنورة والقميص قد ظلّا عندي حتّى بلغت بعد ثلاث سنوات ليصبحا مناسبين لجسدي. وكان ذلك اليوم الذي انكسر فيه وهم الاستثناء فعليا للمرة الأولى.

منذ ذلك الحين، أصبح عليّ أن أصبح مثل كلّ الإناث، أعاني كلّ شهر من الدورة. أحرص حين أسير في الشارع، أن لا ينتبه أحد لما بي. مرتعبة من بقعة أو لطخة دم قد تظهر على ميدعتي أو سروالي، أسأل صديقتي أن تسير خلفي وتنبّهني إن كان ثمّة شيء. يجب أن لا ألعب الرياضة في اليوم الأول من الدورة، خاصة، فأقصد الأستاذ خجلة بسبب آلامي وأقول أنّي لا أستطيع اللعب، فيفهم الأستاذ الأمر دون شرح وأُعفى. أضف إلى كلّ هذه الطقوس، ثديان يجب الاهتمام برفعهما بالحمالات خشية فزاعة “الترهل والانكسار”. فالصدر المنتصب علامة أنوثة وجمال وهو همّ أغلب الفتيات في سنوات المراهقة مع الشّعر، فتراهنّ يفتحن زرّين من الزي المدرسيّ أو أكثر وإذا كان الزي يُقفل بسلسلة فالأمر أكثر أناقة. أذكر زميلة لي تكوي ثنية الميدعة لتحافظ على شكل الفتحة التي تظهر رقبتها وبعض الصدر. أمّا بالنسبة للشعر، فإنّ التي لم توفّقها الجينات بشعر حريريّ تقصد الحلاقة كلّ نهاية أسبوع لتبدأ الذي يليه بشعر منسدل.

وماذا فعلت؟ لم أهتمّ بكلّ هذا. لعبت الرياضة وشاركت في مباريات الذكور ولم أهتمّ للدورة ولا للثديين. رفضت أن أكون ضعيفة، أتحجّج بهكذا أمور لأحصل تعاطفا أو إعفاء. لم أهتم لفتحة الزيّ ولا لكويه، أذكر أنّ كتفه من ثقل المحفظة واحتكاكها بالكتف قد تمزّق، ولم أكترث. لي مع كوي الشعر، طرفة. فعلتها مرتين عقب استعمال مملّس للشعر يجعله منسدلا لأشهر، وحصل أنّ شعري لم يحتمل المادة فتساقط منه الكثير ما اضطرّني لتغطيته باستعمال مناديل كتلك التي يلبسها “الهيبيز”، حتّى أصبحت علامة مميزة لي. أسير بالمنديل على رأسي وبنطال الجينز المثني حتى الكعبين، أجرّ ما في رجلي جرّا ولا أكترث. لماذا ألزم نفسي بتراتيب تتبعها الفتيات؟ لا شيء يدعوني لذلك، فلأكن الاستثناء.

وهم الاستثناء هذا انكسر للمرّة الثانية، حين وجدت أنّ بعض الزملاء من الذكور يستلطفني وأنّ أحدهم يرسل لي رسائل حب في الكتب التي نتبادلها وأنّ آخر يرغب في لقائي من حين لحين وإن في العطل. أنا إذن ككلّ الفتيات، يحدث أن أعجب أحدهم ويحدث أن يروقني الاهتمام، لكنّي لم أستسلم. ينكسر وهم الاستثناء هذا لأبني آخر. وكان عالم الحب والعلاقات والدراسة مجالا شاسعا للخلق والإبداع.

الكتب والعلم خرّبا حياتي. لم ينفكّ قريب لي يقول لي: “سينتهي بك الأمر مجنونة، تدورين في الشوارع وتتمتمين X ،Y ،Z، cos، sin.. محفوظ، حسين، miose، mitose..” فأضحك ساخرة. أنا سأبلغ مراتب عليا من العلم وسأشغل منصبا هاما في مكان ما، نازا ربّما. كنت حينها مغرمة بالهندسة الجينية والجينات وعلم الوراثة، لا علاقة لنازا طبعا بالوراثة والجينات لكنّها فقط تعبير عن مكانة عليا. سأكون استثناء في عائلتي الفقيرة التي لم يبلغ فيها أحد حظوة علمية ولم يشغل منصبا كبيرا، أقصد هنا تحديدا عائلة أبي فأهل أمي لا يحتاجون جديدا في قائمة ناجحيهم. رغبت بشدّة أن أكون الاستثناء، لأجلي ربّما، ولأجل أبي وجدتي خاصة، لكنّي لم أكن ما أردت.

في الحب، أوهامي أكبر وخيالي أكثر شساعة وهذه فعال الروايات والأدب عموما. أعيش قصة عظيمة وأحظى بحبّ لا متناهٍ. رجل لم أرسم له يوما شكلا محددا ولا هويّة محددة فأنا منفتحة وأقبل الاختلاف في درجاته المتطرّفة حتّى. الهدايا، كتب ربّما وشرائط كاسيت لفنانين “معتبرين”، ورود خاصة وقصائد ربّما. لم أحظى أبدا بأيّ منها. لا أحد في هذا المحيط يهدي كتبا وورودا وإن كان ثمّة فأنا لست من المحظوظات. لم أفكّر بالزواج والخطيب ذي المواصفات الفلانية وصاحب المهنة العلانية ولا بالبيت أو السيارة. أفكاري كلها كانت هلامية، أكواما من الهلام. رجل استثنائي، قد أطوف معه المدن على الأقدام، قد نذهب لإفريقيا بحقيبتي ظهر فقط للـ”تنوير”. لا يجلب لي عطرا ولا شوكولا، بل سلسالا أو قلادة تكون خيط صوف به تميمة. قد يكون أصغر كثيرا أو أكبر كثيرا وقد يكون من أثيوبيا أو بلاد البنغال، مسيحيا ربّما أو لادينيا، هذه ثانويات، سنتعبّد كلّ على حدة. وقد نتعبّد معا، في عالمي القزوردي الذي تتسامح فيه الأديان وقد أدخله -يا لـوَرَعي- الإسلام. بالطبع، لم يأتِ هذا الاستثنائي أبدا، ليس لانعدامه بل لأنّي لست الاستثناء. أنا كملايين الفتيات حول الأرض.

يطنّ في رأسي قول درويش كثيرا: “كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء.” أفقت لأجدني في الثلاثين، بلا عمل، بلا مكانة علمية مرموقة. أتقشّف لكي لا أكون عالة على أبي. أغلب من يعرفني، يعرفني عبر شبكة الانترنت. مجتمعيا، أنا عانس بشهادة جامعية. لا خطّاب ولا عروض زواج -أختي لا تستوعب الأمر-. هذي هي حقيقة الحال. وأنا في هذا مع آلاف النساء في بلدي والملايين في بلاد العرب، جميلات ومميزات وأكاديميات وعاملات وقابعات في البيت -يقول المثل التونسي “شنقة مع الجماعة، خلاعة”-. حصّلت وظيفة بعد الثلاثين. أشتغل لأخرج من جيبي مالا أشتري به شيئا ما أعجبني. أحاول أن أطوّر قدراتي وأحسّن شبكة علاقاتي. أحظى بدعم وتشجيع من يؤمن بي. أحاول جهدي أن أنجز شيئا ما وأدعم بما أستطيع من يحتاج ويستحق الدعم. أسعى لأحقّق حلما صغيرا عالقا بعدُ، أن أسافر، فأجمّع له بعض المال. استثناء صغير عالق بعدُ، ربّما، أن أفكّر في سفر لا في شراء بطانيات وأطقم فناجين استعدادا وتحسّبا لعرض زواج يسقط عليّ من علٍ. تقول الخرافة السائدة: “عندك شهادة وموظّفة، سيرغبك الكثيرون وينسون إشكال العمر.” هكذا وهبني المجتمع العزيز من حيث لا أحتسب “وهم الاستثناء” الجديد الذي سأتشعلق به. مجتمع منصف، ولله الحمد.

-_-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نهى سعداوي

تونسيّة، متحصلة على الماجستير في اللسانيات الانجليزية. مهتمة بالترجمة ودعم المحتوى العربي. هاوية كتابة. مناصرة للقضية الفلسطينية، لقضايا العرب والمسحوقين أينما كانوا.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..