تاريخ

من ملاحم الاستقلال التونسي: معركة جبل سيدي عيش

الكاتب: حسام طوبان

يحفظ التاريخ لنا سيرا وأحداثا عظيمة سردها تونسيون بدمائهم وجعلوا من أرواحهم جسرا تمرّ فوقه الأجيال لعصر الحرية. وحتى لا ننسى رجالا عاهدوا الله وعاهدوا أنفسهم على الدّفاع عن بلادنا التونسية ومستقبل شعب كامل من بعدهم، إنهم أبطال معركة جبل سيدي عيش الثانية التي دارت بين ثوار جيش التحرير الوطني بقيادة الأزهر الشرايطي و قوات الاحتلال الفرنسي في شهر نوفمبر 1954.

كانت معركة فاصلة، أراد من خلالها المجاهدون تركيع فرنسا بالقوة لتنفيذ وعودها بالاعتراف بالسيادة التونسية. شارك في المعركة من الجانب التونسي حوالي 500 مجاهد -وقيل أن العدد أكبر من هذا بكثير- من الذين قدموا من أنحاء مختلفة من البلاد التونسية من الجنوب والوسط الغربي تحديدا. و يعدّ هذا أكبر تجمع للمجاهدين في معركة واحدة خلال ثورة التحرير المسلحة الممتدة من 18جانفي 1952 إلى آخر سنة 1954 والتي انخرط فيها ما بين 3000 و4000 مجاهد. وقد تطور تنظيم الفصائل المسلحة بالوسط الغربي والجنوب في تلك المرحلة بشكل كبير بقيادة الأزهر الشرايطي ومساعده الفذ علي بالحاج لوهيبي لتصبح بمثابة نواة لجيش منظم أصبح يسمى “جيش التحرير التونسي” وأصبح من الصعب جدا احتوائه.

سعت سلطات الاستعمار الفرنسية من خلال هذه المعركة لإبادة المقاومة المسلحة في الجنوب والوسط الغربي بعد رفضهم تسليم السلاح. و قد حشدت لهذه المعركة 50 ألف جندي وهو نصف عدد قواتها المسلحة في تونس، قدم أغلبهم حديثا من حرب في الهند الصينية. وكانوا مسلحين ب 25 مدفع عيار 105 وعدد كبير من الدبابات والسيارات المصفحة والرشاشات الثقيلة، مستعينين ب40 طائرة حربية استعملت قنابل النابالم الحارقة بكثافة.

لم تكن المعركة مجرد حادثة أو عملية اعتراض أو إغارة بل معركة كبرى بأتم معنى الكلمة، تم التحضير لها مسبقا من الطرفين وامتدت لثلاثة أيام بلياليها. قبل بداية المعركة، كان القائد لزهر الشرايطي قد أعد جيدا للمعركة باتفاق مسبق مع قادة عدة فصائل أخرى لخوض المعركة. ومن أبرز هؤلاء القادة: الجيلاني الفيلي قائد الفراشيش والقائد الطاهر بن سليمان الخضراوي والقائد عكرمي بالنور شكري والقائد محمد بن بلقاسم البوعمراني والقائد عمار بن نصر التليلي (استشهد اثناء المعركة) والقائد محمد بن عزوز فيلي والقائد ساسي البويحيي وعدة قادة آخرين …

بدأت معركة جبل سيدي عيش  يوم  21نوفمبر 1954 باشتباكات بين القوات الفرنسية والمجاهدين في جبل الناظور بولاية القصرين، الذي يبعد مسافة 200 متر عن جبل سيدي عيش. و قد دارت اشتباكات عنيفة في جبل الناظور، امتدت المعارك لتشمل كلّ جبل سيدي يعيش أين تتمركز مجموعة تعد 80 شخصا مع قائدهم الأزهر الشرايطي. بدأت المجموعات القتالية للثوار بالتوافد إلى المعركة لمساندة المحاصرين في الجبل. درس الثوار المنطقة جيدا و تمركزوا في مواقع منيعة، وهذا ما ساهم في منع القوات الفرنسية من التقدم أكثر، بالإضافة للطبيعة الجغرافية للجبل التي لم تساعد الطائرات على القيام بمهماتها بفعالية. بينما اعتمدت القوات الفرنسية على عدد جنودها الكبير وعلى تسليحها المتفوق. كلما تقدم الجنود، كان رصاص الثوار يحصدهم من عدة اتجاهات. و انتشرت جثث الجنود الفرنسيين على عدة كيلومترات حول الجبل ليصبح عدد القتلى بالمئات. في المقابل، ارتقى من المجاهدين 33 شهيدا، دُفنوا في مقبرة للشهداء.

لم تكن موازين القوى متكافئة بين جيش نظامي مجهز بأحدث الأسلحة مدعوم بالطيران العسكري ومجموعة حديثة التنظيم بأسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، بالإضافة لغياب الدعم السياسي. فقد سبق وقررت قيادات الحركة الوطنية التونسية تسليم السلاح والدخول في هدنة، كشرط ضروري وضعته سلطات الاحتلال للدخول في مفاوضات للحصول على الاستقلال الداخلي،.وقد كلفت الحكومة التونسية المفاوضة أحمد التليلي لإقناع الأزهر الشرايطي ومجموعته بتسليم أسلحتهم، وهو ما تم بعد أسبوعين.

خلدالشاعر عمار بن الصادق المحمودي ذكرى معركة سيدي عيش في قصيدة شعبية يقول فيها:

حــادث ســيدي عيش نفكر ….. ديــــمـــــه لـــلأبـــــــد

واحــد و عشرين في نوفمبر ….. ثـــابـــت يـــوم واحـــد

فــرنـــسـا دزت بـــالــعـسكر ….. قـــيـــمـــة لا تــتـــعــد

و طــيـارة تــطـلـع واتــحـــدر ….. فـــي الأخـــبـــار تـــرد

الــثـــوار رئــيسهــم مـفـكـر ….. ڤـــال مـــا يـــضرب حد

حــتــى نـــزل العسكر حدر ….. جــا يــزحـــف يـــمــــرد

الــفــوج لــيــوصـل يـتـكسّر ….. لـــعــبــتــهـم بــالــسد

كـــراهـبـهـم للموتى تكركر ….. فــي ڤــفـصـة سبيطار

ثـــلاثـميّة ثـــايــر لا أكــثـــر ….. و الـقيّاد الطاهر و عمار

تـــقــوّى الــحـادث و اطـوال ….. مـــن الــصـــبـحه لليل

ضــرب الـــمــوزر و الـرافـــال ….. مـــدآفـــع وإتــقـنـبـيل

طــيــارة علـى روس الجبال ….. تــخــبــر بـالـصـنـفـيل

هـــي بـــاعـــت صـف رجال ….. لِــلــمــاتو أولاد تـلـيل

يـــــا رب يـــا ذي الــجـــلال ….. يــــا عـــالم يا وكــيــل

ارحـــــم رجــالـــي لــبطـال ….. الـــي مــاتــو مــڤاتيل

من أجل النصر و الإستقلال ….. لا نـــهــب و تـدجـيــل

الـسلـطـة تـعـدت للامـحـال ….. و وقــــع تـــــسـركــيل

و رئـيـس الـشـعـبـة مــازال ….. إن شا الله عمر طويـل

هـــو إلـي مـادد بــالــمــال ….. لـــبــــاس و تــــوكــيـل

وقــت الـشـده تـعدى و زال ….. بــقـا كــان الـتـسجـيل

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

حسام طوبان

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..