أدب أدب وثقافة

كيس الكتب النّائم تحت السرير

المصدر: Pinterest
الكاتب: نهى سعداوي

أبي أدخلني عالم الكتب. لم يقرأ لي وأنا طفلة، ولم نمتلك مكتبة أصلا. فقد كنّا نسكن غرفة في دار جدّي تتّسع بالكاد لسرير كبير، وخزانة بثلاث أبواب، وطاولة زينة لم تستخدمها أمي أبدا، وسرير صغير نمت فيه طفلةً ونام فيه كلّ إخوتي من بعدي.

كانت الكتب في كيس كبير تحت السرير الكبير طبعا. كيس من قماش سميك، ليس بالخيش، بل أقرب للجينز، أو قماش أشرعة الزوارق. لونه رمادي أو أخضر عسكريّ باهت جدّا حتى استحال رماديا. كلّما سنحت الفرصة، كنت أستغلّ انشغال الجميع، وأُدخِل رأسي تحت السرير، وأزحف بجسمي الصّغير نحو الكيس العجيب. أتلمّس الكتب بداخله، وأُخرج ما تقع عليه يدي. أتصفّحه في العتمة النسبية تحت، وأعيده. وأسحب آخر، قد يكون مجلّة أو رواية، بغلاف أو بدونه، باللغة العربيّة أو الفرنسية، لكنّ الأهمّ كان رائحة الورق العتيق التي لها دائما أثر السحر. أتلمّس الأوراق وأقلّب الصفحات ما تيسّر، وأتأمّل الصّور إن وجدت، ثمّ ألملم آثار الجريمة، وأنسحب بسرعة وكأنّي لم أفعل شيئا.

كبرت وتعلّمت القراءة، واشترى لي أبي قصصا تناسب سنّي. وتفوّقت في الدراسة، فحصّلت في نهاية كلّ عام دراسيّ مجموعة أخرى، أتسلّى بها جميعا في العطلة الصيفية، لكنّ سحر كيس الكتب لم ينقطع. وتحوّل تصفّح الأوراق تدريجيّا إلى تهجئة للكلمات، ومحاولة فهم الفقرات بعد قراءتها.

لا أذكر أوّل كتاب تصفّحته وتمكّنت من القراءة، لكنّي أذكر أوّل كتاب أتممت قراءته. كانت رواية أجاثا كريستي “جريمة في القطار الأزرق“. أوراقها صفراء عتيقة، بلا غلاف ولا خاتمة. قرأتها بعدها مرّات ومرّات، دون أن أعرف من قتل روث كترنج. وحين تعرّفت إلى عالم كتبِ الـPDF، بحثت عن هذا الكتاب تحديدا لأعرف النهاية. وكان فاتحة حبّ لم ينقطع لروايات ساحرة أدب الجريمة العظيمة كريستي. حبّ بدأ في أواخر الطفولة، وبدايات المراهقة، وتطوّر للبحث عن كلّ كتبها، والتهامها وإعادة التهامها كلّما ضاق خلقي فسحة وانقطاعا عن اليوميّ المحبط. ولم ينقطع حتّى اليوم بل ونما للبحث عن الأفلام والمسلسلات المستوحاة من أعمالها، و”استهلاك” ما توفّر منها، بذات الشهية.

من كُتب أبي التي ربطتني بها علاقة خاصّة، رواية جرجي زيدان “غادة كربلاء“. صورة الغلاف مازالت حتى اليوم عالقة بذاكرتي. وغادة زيدان كانت مفتتح بحث عن بقيّة كتب سلسلة “روايات تاريخ الإسلام” تواصل لسنوات طويلة، حتّى تمكّنت من قراءتها جميعها من “عذراء قريش” حتى “جهاد المحبّين“.

كيس الكتب ضمّ مجلّات قصقصت صفحاتها لأزيّن بالصور كرّاساتي. أذكر منها مجلّة العربي الكويتية في عدد خاص بعُمان عرفت من خلاله البلد وعادات أهله. ومجلّة أخرى بالفرنسية غلافها سميك عن الآثار في مدينة إيطالية لا يحضرني الآن اسمها. وكنت منبهرة بصور المعالم والمباني الأثرية محاطة بحدائق أو غابات، وقد بدت لي مثل البطاقات البريدية التي لا أملك اقتناءها.

كبرت واختفى كيس الكتب، ونُقل محتواه إلى رفّ في خزانة حائطية، ثمّ إلى أدراج فيها. ضاعت بعض الكتب، وبعضها مازال صامدا. وتزايدت الكتب ولو أنّنا لم نقتنِ كتابا واحدا، بل الفضل لجوائز التفوّق التي انقطعت منذ عام الباكلوريا. أمّا علاقتي بالكتب فلم تنقطع أبدا، تغذّت كما يجب من مكتبات المعهد والمكتبة العمومية، ومكتبة الجامعة، والفضل الكبير في تواصلها سنوات الشباب لكتب الـPDF، وهدايا الأصدقاء مؤخّرا.

لم أخبر أبي أبدا عن كيس الكتب، ولم أخبركم عن كلّ اكتشافاتي أثناء نبش محتويات الكيس الكبير الذي نام سنوات تحت السرير الكبير.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نهى سعداوي

تونسيّة، متحصلة على الماجستير في اللسانيات الانجليزية. مهتمة بالترجمة ودعم المحتوى العربي. هاوية كتابة. مناصرة للقضية الفلسطينية، لقضايا العرب والمسحوقين أينما كانوا.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..