أدب وثقافة

حصار.. نزيف مسارات الواقع والذّكرى

الكاتب: حامد محضاوي

في هذا المدى المفتوح على اللانهاية، في هذه الحياة المشرعة أبوابها للّامعنى، تُهزم العديد من الأحلام و تنمو في كل صباح الأعشاب الطفيلية. هنا في مدينة التعب لا شئ يتغير، تفاصيل الروتين اليومي هي الحياة. مدينة الركود المتكلس هي مسكني غصبا عني. نمشي في طرقاتها بلا بوصلة، نكرر ممارستنا اليومية، نترك أثر كل خطوة منهزمة للغد. يعرفون أنك لست بخير بينهم و يعلمون أنك تلعن ممارساتهم و نظام حياتهم ألف مرة في اليوم، و لكن يصرون على التطاول عليك و محاولة دمجك في خنوعهم وجمودهم و رضاهم بما لا يجدي. الكل ينشد الموت منذ الولادة بتكرار نفس العادات و رواية نفس الأساطير وخرافات السابقين، يجنحون الى تكتل القبيلة لصد كل وردة تغيير قادمة. يصنعون لأنفسهم مقامات عليا من رحم الخرافات و يسمون ذلك التاريخ المجيد للقبيلة، وكل مرتد عنه تسحب منه وثيقة الانتماء. هنا لا قيمة للعقل و لا الإبداع و لا الجمال، هنا فقط ممارسات و طقوس بائسة و محرقة تلتهم الأجيال.

أمشي خلف نفسي مرتطما بكل هذه العراقيل متعثرا بين الحفر التي تزداد اتساعا ساعة بعد ساعة. أخطو منهمك الامنيات بلا عنوان و قيمة. أشاهد الأطفال يتبعون خطى آبائهم الى المحرقة فتلتهب في عينيّ شرارة النقمة و سرعان ما تنزل دمعة مترنحة تبكي حالي وحالهم. لا فلسفة هنا و لا بعد تحليلي، لا أدب و لا شعر، لا رسم و لا سينما، هنا لا أوراق ولا أقلام، مدينة الغوغائيين و أشباه الإنسانيين. هنا غرائز و شهوات حيوانية و موت معنى التّحرر والتّقدم. يجادلني عقلي بين الحين والآخر حول إمكانية الإصلاح فلا أجد مهربا من قول الحقيقة له: “إنهم قد قاموا بعمليات استئصال لعقولهم.” هل يستقيم حال الأمم؟ “إنهم اختاروا و أمضوا على وثائق عبوديتهم”. يبقى المولود الجديد بينهم يثير إحساسي بالشفقة لأنه بريء ويذهب إلى حقيقته المظلمة بلا إرادة شخصية منه.

***

لا أحد آتٍ معي. وحيدا جئت إلى هذه الحياة لا إرادة لي في ذلك و لا سابق إنذار. أنا من مكان ما هناك في أقاصٍ بلا عنوان. لست ابن القبيلة و لا تابعا في مقاييس آليات عيشها و موتها. أعرف نيرودا و لوركا و غيفارا و غوركي و روزا لكسمبورغ أكثر من هؤلاء المشاركين لي في الكلأ و الماء. وحدي أسير بأفكاري و أرسم مدى قناعاتي، لا تهمني صفة فتى القبيلة و لا سيدها. أنا لا أعترف بالأشواك المبثوثة هنا والمسماة عادات و تقاليد. عذرا جيل ديلوز هنا لا تُحترم المفاهيم. أنا أناركي خارج تنظيمات الزور و الركود التي تسمى العائلة الكبيرة والعرش. هنا في هذا المحيط المعيشي بين صحراء و جبل و حجر لا يولد القرنفل ولا يزهر الياسمين. هنا أرى نيتشه منتصبا يدعوني إلى منطق القوة فيستهويني ذلك من أجل نحت عنواني في ما يسمى مسقط رأس أجدادي. أنا هنا مشحون بعبء السؤال ومرارة الإحساس بالواقع. هنا يريدون تربيتي على أساس التربية والمنطق الأخلاقي ويمنعون شكي في الغد والشئ والغيب عذرا ديكارت لن أخون. هنا تُقتل الفلسفة على الطريق ويصير العقل عبدا لدى المنطق السائد. أنا وحيد أصارع وأبحث عن لغة أخرى للمعنى. لا أحد يرى في كلماتي جدوى. هنا يتكرّر الموت كل صباح ويتردد صدى اللامبالاة في كل ثانية. لا ألوم الأحياء الأموات هنا فتلك تراكمات لا تحلّ ولكنّي ألوم المشروع الوطني، والذاكرة تحفظ السجلات. ليس لنا هوغو تشافيز العظيم أو موخيكا الرائع. كم نحن في حاجة لمن يحب شعبه! آه أيتها الكلمات المترنحة على كفµ اللامعنى متى تصبح للغد قدرة و نجاعة؟

***

هنا يمتد القحط على طول حبل الذاكرة، هنا الألم يرخي سدوله على خدود الأمنيات. جراد الخنوع أتى على محصول الورود وقضى على الثمار. هنا الرمل يجتاح البراعم و يغتصب الأغصان، هنا لا زقزقة عصافير و لا شدو بلابل. أفاعي التبعية تغرس سمّها في كل وردة. هنا الكثبان تنتصب كسور الصين العظيم لتصد كل فجر جديد، هنا لا الشمس مشرقة و لا السماء صافية. لا كتاب يطالَع و لا صفحات تكتب. هنا تنتصب العصبية و الغريزة في رأس المملكة وتحت سياطها يمضي القطيع. هنا يقتلون الحلاّج فينا ويمنعون ذكر المعتزلة ويلعنون ماركس بدون سابق معرفة. هنا تموت الفلسفة ألف مرة و تهدر دماء الأفكار في العلن. الموت يمشي مزهوّا يدفن الشموع ويعد مواكب المقابر الجماعية. كم أنت رحيم أيها الحجاج، هنا تُقطف الرؤوس قبل أن تينع. هنا تُعدّ مواكب رجم الأقلام وتُدقّ طبول الفرح بموت الأزهار. يراودني راسل قائلا: ”لا تمت من أجل أفكارك يمكن أن تكون خاطئة”. عذرا حبيبي الفيلسوف، هنا لا يتركون لك المجال لتعبّر عن رأيك وتقيم تجربتك. هنا كما قال محمود درويش: “يلقون عليك القبض و أنت بصدد ارتكاب الحلم”. هنا قمة النّجاح الزواج و إنجاب الأطفال، هنا تعد أجيال من أجل الحفاظ على رصيد ائتماني من الركود والتحجر يسمونه العادات و التقاليد. عذرا أدونيس لا أريد أن أكون مفردا بصيغة الجمع لمطلب نرجسي ولكن نريد فقط أن نتقدم خطوة في طريق مغاير.

هنا لا ينطق أحد عن هوى فكل أفعال وسكنات القبيلة آيات مقدسة، هنا تتآلف الظلمات ضد كل نور جديد،هنا لا أحد يثور و لا أحد يرفع ناصية الحلم. عذرا حبيبي درويش، هنا لا يأتي الأمل أصلا لكي نودعه. هنا الجميع يسعى إلى دفء المجموعة، هنا يقاتل الجميع كل نسيم عليل يطفو في المكان. هنا الانفتاح فسوق وانحراف. صدقت نيتشه نعم هنا يعتبر الآخر عدوا. هنا لا زينة و لا ألوان، هنا إيمان عجائزي ومقاصل واقفة تأكل الأفكار، هنا كل شئ على ما يرام في نظر العوام. يلوح لي بابلو نيرودا من هناك قائلا: “إن كانت كل الأنهار عذبة فمن أين يأتي البحر بملوحته؟”. هنا موت لكل فكرة، هنا لا أهميةللعقل. في هذه الأماكن الموشّحة بأثقال الخمول لا جديد يأتي. صورة الملل تبتكر في كل صباح ألوان أخرى للزينة. لا طعم لساعات اليوم هنا و ا لون للفرح. في هذا المطلق اللامتناهي لا وجود لأفق للأماني، مناسبات باردة وخشوع لا يوحي بالإيمان. تقتل في كل صباح جديد بعض إنتظاراتنا. هكذا نحن اليوم و غدا في هذه الأماكن.

***

جمعت شتات أحلامي البريئة. رميت بها في محرقة الواقع المر. أمضي إلى بقية عمري بلا انتظارات و لا آمال. كنت أرى الدنيا بألوان قوس قزح وبشدو البلابل وفي أجنحة العصافير. مشيت لساعات وساعات نحو الشمس ورفعت بصري أكثر من مرّة إلى السّماء لعلّني أظفر بنجم أو يراودني القمر عن نفسي. اختزلت كلّ عناوين الحياة في ابتسامة و لعبة. أيّام الصغر تلك التي نراها الآن ونحن نمسك جمر الواقع وننحت المأساة. اليوم نتقدّم ونتقادم كآلات تتهالك كلّما زاد بها العمر. كنت أرى الحياة جميلة في خرافات جدّي وفي قطعة حلوى وفي رذاذ مطر. تلك الطفولة المخدّرة حينها، لا تعلم مصير الأفق ولا لغة الزّمان. مع كل ليلة جديدة تعود النفس إلى جدلها الداخلي، تبني مناهج للمستقبل، تعد نجمة في السماء بالوفاء، تحاكي القمر إن وجد، تتناقش باطنيا حول ذكرى ماضية، تبكي داخليا من وجع قديم عاودت الوحدة آلامه. هنا النفس تطرح كتابها لمزيد المطالعة وتكرار تمرير الصفحات ومعاودة الأحداث وتقييم المسافات.كل شيء يتمّ في صمت، صمت الليل، صمت الغرفة، صمت الشفاه، اكتساح الظلمة واكتمال مشهد البوح الداخلي. في كل ليلة تعود النفس إلى مخدعها محملة بالشيء واللاشيء، محملة بما تحقق والمستحيل والممكن. تأتي إلى معبد الصمت الليلي بجميع المتناقضات و بكل شتات اليومي. تبحث عن وقفة تأمل أو عن إفراغ حمولة من الأحاسيس أو عن ملجأ للكتمان، لا هدف واضح ترنو إليه. يقولون الليل سبات ولكن تنام العين والنفس تضاجع بقايا هواجس و اختلاجات لا تنام.

في زاوية ما هناك قسم لنا أودعه الله لوقت ما. لا مشكلة لنا مع القدر، مآسينا من نهم أبناء آدم ومتاعبنا من جشع أبناء جلدتنا. تهلكنا خيانات الشيوخ في بلاط المال. تبرير، تخدير، نفاق لخدمة الأسياد. صمت عن آهات الفقراء والمسحوقين تحت شعار “القناعة كنز لا يفنى” ودعاء بالخير والنعم لأصحاب الثرى. لا يُسألون أبدا عن مصادر الثراء، كلّ الممنوعات مباحة في الخفاء وأمام العامة شرف وطلب الهدى. تكتبون وصايا الرزق لأبناء الأبناء، تعلنون أننا عبيد طول المدى. ودين ربّكم لا تهرعون إليه إلّا لقضاء مصالحكم الدنيئة وقتل روح الثورة والقيام ضد الظلم في قلوب الفقراء. دين ربّكم تريدونه فقط متطابقا مع أوامر صندوق النقد الدولي ومحتشدات سرقة مدّخرات الشعوب وأجندات العمالة. دين ربّكم جعلتم منه تجارة لأسواق الاستهلاك ووحشية رأس المال وتغييب وعي الشعوب وامتصاص دماء الفقراء. ربّي أوصى بالاشتراك في الكلأ والماء و النار. ربّي أوصى بالعلم ونور البصيرة، ربّي أوصى بعدم الاستكانة للعباد الظالمين، ربّي أوصى بإنسانية البشر. قمتم بقتل الطفل البريء في قلبي، وضعت سلة المشاعر والعواطف معه وكتبت على شاهد القبر “لا يجب أن يعيش، خُلق ليموت.”

***

لن أصبح ما أريد. هذا العمر يجري إلى الهاوية. حديث الصباح، قهوة المساء، ليل الأمنيات كلها مواعيد تمضي بنا إلى النهاية. هنا الأعشاب الطفيلية تحتل كل مساحات الماء والورود تبكى قطرة من أجل الحياة. الماء العكر يجذب كل أصناف الحشرات ليهمس لها بضرورة استباحة كل عناوين الربيع. لا شيء يأتي غدا إلا الرمال الزاحفة على العقول. شارات نصر المأساة تلوح من بعيد. عندما كنّا صغارا علّمونا أن الخير منتصر.   قالوا لنا: “الطقس جميل،السماء صافية و الشمس مشرق . يمشي المعلّم بين صفوف المقاعد يحدثنا عن شدو البلابل وزقزقة العصافير. أيام الطفولة، سمعنا حكايات عن بهاء الربيع وجمال الورود فيه. باسم براءة الأطفال مرّروا لنا كل ما يريدون ورسموا لنا الوجود جداول ماء وجنان ثمار ورياض زهر وياسمين. اليوم عرفنا أن الخرافة كانت سيدة تلك الأحاديث. أمضوا بنا أوقاتهم وانتهكوا براءة دهشتنا وكتبوا في سجلات مآثرهم: “قمنا بتكوين جيل”. الآن علمنا مدى الإجرام الذي قاموا به في ثنايا أحلامنا وفي خطوات تفكيرنا الأولى. شكّلوا لنا زوايا نظر محنطة وعناوين خاطئة للحياة لكي لا ننقد عجزهم. الآن نحن، وغدا جيل جديد يذهب إلى المحرقة.

حصار بلا أسوار ولا سلاسل

حصار بدون الأساليب المعتادة

أصعب حصار

حصار الألم للأمل

حصار العدم للأفق

حصار السماء للواقع

حصار الأرض للخطوات

أقسى حصار

حصار النفس للأمنيات

حصار الذات للتساؤلات

حصار اليومي للقناعات

حصار الصفحة للمفردات

أقبح حصار

حصار القدر المؤلم لحقنا في الحياة

***

أبحث عن نفسي وسط ركام التعب والانهيار وانتظارات الخلاص الذي لا يأتي. كتبت من عمق الروح وأعلنت العصيان مرّات و مرّات. كتبت على الجدار لا ركوع ولا خنوع ولا انكسار. أعلنت الحرب على الرّيح في يوم ما وأرسلت لهيب الغضب نحو الأفق. تطاولت على الطبيعة ولعنت الساعات والنظام والبروتوكول وربطة العنق. انكسر القلم و ذهب القمر والشمس ليست ملكا لنا. أيها الأمل ارحل! لستُ مؤهلا لحمل ثقلك. ضاقت أنفاسي و صارت مكبلة خطواتي، قلة ذات اليد و سيف الواقع قتلا انتظارات الأفق. ارحل لست العنوان المطلوب ولا أنا سيزيف لأحمل الصخرة. لا صراط هنا و لا عدالة! البئر تستقبل في كلّ يوم يوسفا جديدا والإخوة يواصلون الكذب. مسكين هو الذئب!

 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

حامد محضاوي

تونسي، حاصل على الإجازة في الآداب و الحضارة العربية. نشرت له نصوص أدبية وفكرية و صحفية في:
-صحيفة كاسل جورنال الدولية الإلكترونية
-صحيفة الأنباء العربية الإلكترونية
-صحيفة أخبار الوطن الفلسطينية الإلكترونية
-صحيفة خبركم العراقية الإلكترونية
-صحيفة الإسماعلية برس المصرية الإلكترونية
-موقع ساسة بوست
-صحيفة مننكس الإخبارية تونس
-صحيفة العطوف تونس
-صحيفة تونس الخضراء
-صحيفة اليوم الإلكترونية
-صحيفة الإعلان الجديد الورقية
-صحيفة تونس الإخبارية الإلكترونية.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..