سياسة سياسة و مجتمع مجتمع

ماذا لو كان السّرب لا يغرّد؟

مدخل للتّفكير بأشكال مختلفة أو “إعادة التفكير” في التّفكير

هل كان ينبغي أن ننتظر كتاب ميشيل فوكو الشهير “العقل الكلاسيكي” حتى ندرك العلاقة بين العقل و الجنون؟ ماهي قيمة الفعل الإنساني في هذا الكون إذا لم يكن الإدراك و التدبير منهجا؟ كثيرون كتبوا في نقد العقل و إختاروا زوايا محددة للبحث و لكن هل انتهى نقد العقل حيث يمكن أن نقول أن الإنسان عاقل بحق؟

الاعتماد على الفطرة و الإحساس والأثر و كل ما نقبله دون مساءلة هي دلائل من ضمن الكثير مما ساهم في تقزيم العقل حتى صار الإنسان، ذلك الذي يزعم أنه مركز الكون باعتباره عاقلا، يجتهد في تغييب نفسه بنفسه أكثر من ما يجتهد في التفكير و الفهم والإدراك وتوظيف ملكاته العقليّة لذلك تجد كثيرين ينبهرون بسرعة بنوع من المثقفين الأقرب إلى الروبوتات يعيدون على مسامعهم ما قاله الفيلسوف كذا أو المفكر كذا و العالم كذا دون مساءلة لهذه القواعد الوضعيّة التي ابتدعها عقل لا يشترط بالضرورة أن يكون مدركا لمآلاتها و مدى أهميتها، إنّهم فقط منبهرون بنصوص تمت صياغتها بحنكة متناهية و تم اختيارها من طرف المتحدّث بدهاء كبير.

لم يكن بيريكلاس يدرك أهمية مصطلح “ديموس كراتوس” و لا كان هيبياريس يدرك أن ‘السفسطة’ ستتحول إلى ماهي عليه اليوم، ولا أدرك ماركس وإنجلز ولا فلاسفة العقد الاجتماعي أنفسهم أن قدرتهم على تقديم تصورات جديدة للعالم ستتحول إلى قواعد حياتية ومناهج تفكير تجذب الناس دون مساءلة أو تمحيص بالضبط كما لم يكن حمزة صياد الأسود ولا صلاح الدين الأيوبي وغيرهم يدركون قيمة شجاعتهم و مدى تأثير كلماتهم في أجيال متعاقبة، ألم يجرؤ هؤلاء على التفكير بشكل مختلف؟ ألا يجب أن نفكر نحن أيضا بشكل مختلف حتى عن هؤلاء الذين نعتبرهم قيما فكرية كبيرة؟

مجرّد الوقوف عند فكرة أن الشرّ في هذا الكون منتصر على الخير و أن السياقات التي أنتج فيها فلاسفة كبار ومنظرون و علماء الوعي ليست نفسها اليوم، محفّز على إعادة التفكير و لكن ما الذي يمنعنا من ذلك؟ سيتسابقون حتما إلى إيجاد مبررات من قبيل أن النظام العالمي أو الداخلي القطري لا يسمح بذلك و أن القدرة على التأثير غير مضمونة وربما غير متوفرة ولكن، ألم يكن الأمر كذلك حتى بالنسبة لمن نعيد اجترار انتاجاتهم الفكرية و العلمية؟ ثمّ من قال أنه لا وجود لما ينقض كل ما وصلوا إليه، أليست المدارس الفكرية تولد على أنقاض سابقاتها؟ وبما أننا نبرّر تغييب العقل بالنظام العالمي لماذا لا نفكّر في التغيير نحو نظام أفضل مركزه إنسانية الإنسان أم أن ذلك مجرّد تبرير لاستمراريّته؟

نعم، إنه الاختبار الأصعب على الإطلاق لاشتراطه القدرة التي تُكتسب بالتمرين و الشجاعة التي تكتسب بتثمين قيمة العقل نفسه، لا ريب أننا نستعمل قوالب جاهزة بل نطالب بتوفير بعضها من قبيل الحرية و المساواة والعدالة وغيرها و لكن ما الذي يجعلها ذات قيمة إذا لم نسائلها و ندرك قيمتها المحسوسة و الملموسة؟ ثم إننا نطلق على من لا عقل له صفة المجنون فهل نحن نثمّن قيمة عقولنا قبل ذلك؟

سيقول البخلاء وعبيد الكرّاسات القديمة والمعتصمون بالتاريخ أن التفكير في إعادة التفكير بأشكال مختلفة ضرب من الجنون، لا لأن إعادة التفكير في التفكير تعني غياب العقل بل لأنهم قد قضوا على عقولهم و اكتفوا بما هو منقول و يهدد العقل بنسفه إذا أعاد مساءلته. و في هذا وحده حجة دامغة لأهمية إعادة التفكير بأشكال مختلفة لا تستهدف إنتاج مسلمات جديدة، بل إعادة الاعتبار للعقل الذي يقدر على تجاوز استنتاجاتها و مخرجاتها.

كانت هذه مجرّد أسئلة توجيهيّة كمدخل لسلسة من المقالات التي ستنشر تباعا على مجلّة “قرطاس” تنطلق في مجملها من سؤال على ارتباط وثيق بفكرة “إعادة التفكير”. يقال دائما “فلان يغرّد خارج السرب”، فماذا لو كان السرب لا يغرّد أصلا أو أنّ صوته نشازا؟

 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

الصغيّر شامخ

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..