مجتمع

رسالة إلى مريض نفسي

الكاتب: خديجة غزيّل

عزيزي المريض النفسي،

بادئا ذي بدء، أبعث لك بألف تحية وتحية من جمهور العامّة. نشكرك لما أدخلته في نفوسنا من بهجة -نعم بهجة- لقراءتك، وتسليط الضّوء على موضوع المرض النفسي.

عزيزي المريض النفسي، كنت صغيرة وكبرت وفي ذهني صورة رائعة طوباوية عن شخصيّة الطّبيب النفساني و عن المريض النفسي أيضا. صورة زرعتها فيّ شخصيات إحسان عبد القدوس في جلّ كتاباته: ‘لا أنام’، ‘ثقوب في الثوب الأسود’، ‘بئر الحرمان’ و’حالة الدكتور حسن’، بالإضافة إلى أفلام العندليب التي كانت تُبثّ في أيام العطلة الأسبوعية فأقتات أنا على مرضاها و تقتات هي من أمطار دموعي، ومن النور الكهربائيّ الذي كنت أطفئه حتّى أتلذّذ من عذابات شخوصها المريضة وعذاباتي. أغرتني طريقة التّداعي الحر ّبأن أكون مريضة نفسية. ومنذ ذلك الحين وأنا مريضة نفسية قيد التأجيل.

كبرت و اكتشفت أنّني نوعا ما مريضة نفسية. وسرعان ما حرصت على إقناع عقلي بأنّني أعاني من مرض نفسي حقيقة. وأنا في المعهد الثانوي كنت متميّزة وناجحة. وصادف أن مررت بمشكلة، وبدل أن أفكّر في حلّ لها، قرّرت منذ البداية أن ليس لها أي انفراج، وشددت الوثاق على نفسي وقرّرت أن أدمّرها. كنت لا أزال صغيرة، قرأت لأحمد شيشوب و تعرّفت على عديد المصطلحات النفسية. هل كنت مازوشية؟ دخلت قاعة الامتحان، طالعتني ورقة الامتحان بسهولة أسئلتها، ثمّ ضحكت وطويت الورقة وقلت:”لا أريد أن أنجح.” ولم أنجح في تلك السنة.

بقيت فكرة زيارة الطبيب النفسي تؤرقني وتزورني من حين لآخر. كان حلما وجب تحقيقه إن عاجلا أو آجلا. و جاء اليوم المنشود. بلا عنوان بين يدي جبت الشّوارع المحيطة بمحطة برشلونة في تونس العاصمة، بحثا عن ضالتي وسألت الصيدلانية بشيء من الدهاء، إذ لابد أنها تعرف أحدهم. دخلت  على مهل وبحذر غريب. كنت أتطلّع إلى وجه الطّبيب وهو يدخل. كان وسيما مثلما تخيّلت صورة الطّبيب النفساني، ولكن سرعان ما شعرت بإحباط. لم أرى كرسيّ أو سرير التداعي الحر! و تحطّم حلم السّنين الجميل في غمضة عين.

ما إن سألني الطبيب، حتى اكتشفت أنني أكذب في سبب وجودي هناك. كنت أعاني ضغطا عصبيا من جرّاء رسالة التخرج ولم  يكن هذا سببا كافيا لزيارة الطبيب النفسي. كنت أطالع وجهه بنظرة المحقّق أو المفتّش كأنّني أريد أن أبلغه بأنّ لي ذكاء خارقا وأنّني أعرف حتما ما يدور في خلده. أنا أدرك أنّه على علم بأنني أكذب عليه في معظم ردودي.. ثمّ خرجت بخفي حنين.

عزيزي مريض النفسي ، لا تتصوّر كمّ الألم اللاسع الذي اعتراني! كان حلمي يتهاوى. لم أكمل ثلاثة أيام ووجدتني أمام الطبيب مرة أخرى. هذه المرة، وبراءة الإجابات في خاطري، لن أضحّي بمبلغ الستين دينارا هباء! اظطراب في المزاج، كان ذلك ما أعانيه حسب تشخيصه. مدّني بجملة من الأدوية مضادّة للاكتئاب ولم يعفني من الستين دينارا. قالت لي صديقتي يبدو أنني قد ذهبت إلى “طبيب نفسي” وليس إلى “محلّل نفسي”. فهمت منها أن الأوّل يداوي بالمستحضرات الكيمياوية، في حين أن الأخير هو الذي يستعمل طريقة التداعي الحر.

الإجابة لا، إذا كنت ستسألني إن عدت مرة أخرى. بعد أسبوع من العقاقير المنومة، كنت أركب الميترو وأشاهد الناس، الميت والحي، السليم والمجنون، السارق والخارق والخانق والمخنوق. أخذت الدّواء من حقيبتي و ألقيت به من النافذة. اللعنة! كنت مريضة بالوهم وبالحقيقة. وربّما أنّني فعلا أعاني من خطب نفسي لم أفكّ شفراته بعد، أو أنّني بعملية حسابية بسيطة تبينت ذلك. ولكنني اعتزمت النهوض من النوم المميت الذي تتسبب فيه العقاقير التي مدني بها الطبيب. ذلك الذي هشّم الصورة البهيّة والمثالية التي كوَّنتها ذاكرتي ومخيّلتي لسنوات عن التداعي الحر و عن التحليل النفسي.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

خديجة غزيّل

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..