تاريخ

الشّعراء الصّعاليك (3): تأبّط شرّا ورامي يحيى بين الواقع والخيال

الكاتب: دعاء فتوح

يمتلك “تأبّط شرا” ذكاء متوقدا وحسا فكاهيا لاذعا يتجلى  في كثير من المواقف، من أشهرها حادثة جمعه بأحد حمقى قبيلة “ثقيف” واسمه “أبو وهب”. سأله ذات مرّة عن سرّ تغلّبه على الرّجال وقدرته عليهم رغم ضآلة جسده، فقال له:”إنّما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبّط شرا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت0″ فقال له الثقفي:”فقط؟” قال: “فقط.” قال:”فهل لك أن تبيعني اسمك؟” قال:”نعم، فبم تبتاعه؟” قال:”بهذه الحلّة وبكنيتك.” قال له:”أفعل.” ففعل، وقال له تأبط شرا:”لك اسمي ولي كنيتك؟” وأخذ حلّته وأعطاه طمرية، ثم انصرف.*(1)

ثم نظم شعرا لزوجة “أبي وهب” الأحمق الذي اشترى لقبه مثلما اشترى فنان الكوميديا المصري “إسماعيل ياسين” “العتبة الخضراء”، يقول فيه:

ألا هل أتى الحسناء أن حـلـيلـهـا     تأبط شرا واكتـنـيتُ أبـا وهـب

فهبه تسمّى اسمي وُسمّيت باسـمـه   فأين له صبري على معظم الخطب؟

وأين له بأس كبـأسـي وسـورتـي     وأين له في كلّ فـادحة قـلـبـي؟

هذا الحسّ الفكاهي اللّاذع يشبه أيضا حسّ “رامي يحيى” الفكاهي في تعاطيه مع المواقف الحياتية المختلفة. ففي أحد مقالاته كان يعبّر عن واقعه بشكل كلّي وفي منتهى التكثيف قائلا: “في فترة من حياتي كنت باكسب قوت يومي من تنظيف المداخن، ومش معنى ده أنّي شخصية هربانة من أحد روايات الإنجليزي “تشارلز ديكنز”، لأن ببساطة العم “ديكنز” شخصياته روائية وكمان أغلبها أوروبيين زيّه، أما أنا فإنسان حقيقي.. وأيضا إفريقي. وإفريقي هنا مهمة جدا، مش شوفينيّة لا سمح الله، بس للتأكيد أن ده لوني فعلًا، مش إصابة عمل.”*(2).

الغوص في الماضي يختلط بهالة قديمة عن فروسية وبطولة مطلقة. وفهمنا الشعبي على مرّ العصور جعل من تلك البطولة درعا يتوارى خلفه أصحاب منهج “قلة الحيلة”، أولئك الذين يكرهون العمل ويركنون إلى الخرافة مع إيمان عقيم بأنّه يقبع بالخارج مخلّص ما ينسجون حوله الأساطير، لتصفعهم مثلما صفعتني مرارة الواقع. أعترف أن ضيق التجربة والتورّط الشخصي الذي يعكس طمعا في الظهور بمظهر ضحية الخلفية الاجتماعية، جعلني بعيدة في بعض الأحيان عن الموضوعيةعندما ركّزت على الخلفية القاسية التي نشأ فيها الصعاليك، وكانت سببا في دخولهم عالم الصعلكة، دون التركيز على نتائج قسوتهم وعداوتهم تجاه مجتمعاتهم.

قصّة موت “تأبط شرا” واقع لا يجب إغفاله أبدا عند الحكم على آثار الصعلكة المدمرة أخلاقيا وإنسانيا. ففي أحد الأيام خرج “تأبط” مع جماعة من الصعاليك في آخر ليلة من ليالي الشّهر الحرام وتحايلوا على أهل بيت من بيوت “بنى قريم”، وأعطوهم مواثيق الشهر الحرام وأكّدوا لهم أنّهم أصحاب عهد ومروءة. شكوا لصاحب البيت جوعهم فرقّ لهم، واطمئن لمعروفه ومروئته، فإذا بهم يقتلونه شر قتلة. وكان له ولد صغير يحاول الهرب، فتبعه “تأبط” للظفر به وقتله. ولكنّه كان مثل “أخيل” اليوناني، مغترّ بمناعته وقدرته الأسطورية، فكيف يخطر على باله وهو الماكر، بأنّ ذلك الولد الصغير أكثر منه مكرا ويستطيع خداعه؟ رمى الفتى سهما طائشا، فظنّ “تأبط” أنّه لم يعد يملك سلاحا. تخلّى عن حماية نفسه فأصابه الفتى بسهم كان قد خبّأه، في مقتل، لتنتهي أسطورة “تأبّط شرّا”  بحيلة بدائية من غلام صغير، مثلما انتهت أسطورة “أخيل” بثقب صغير في كعبه.

هذه النهاية توضّح أن اللّا قانون لا يقلّ خطورة عن القانون الغاشم. فتأبّط شرّا لم يكن فارسا خالصا أو ضحية خالصة من فرسان أو ضحايا ذلك العصر، بل كانت له قوانينه الخاصة. وسواء اختلفت معها، أم لم أختلف فهذا لا ينتقص من كونه شاعرا عظيما استطاع صنع أسطورة باقية. لهذا وجب علىّ إعادة النظر تجاه فكرة الأحكام المطلقة سواء كانت بالسّلب أو الإيجاب حول شخص ما، أو فكرة ما!

-يتبع-

__________________

المراجع:

*(1)  http://al-hakawati.la.utexas.edu/2011/12/28/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D8%A3%D8%A8%D8%B7-%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%8B-%D9%88%D9%86%D8%B3%D8%A8%D9%87/

*(2)  http://kasra.co/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%86%D8%A9/

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

دعاء فتوح

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..