تاريخ

انتفاضة الخبز (تونس 1983-1984): خبز الكرامة حلوٌ وخبز الزّوّالي مرّ

الكاتب: ريم سعيداني

“في الحوش الكرتوش يخيّط. بعدنا على البيبان والشبابيك.. برشا حسّ. فوق السّطح ناس تتجارى والضوّ كان مقصوص.. ما فهمت شي وقتها صغيرة أما خايفة برشا.” كانت ابنتي بجانبي، هي الآن في مثل عمري حينها. رأت صورة الفاضل ساسي فسألت:”من هذا؟”.. أخذت أقصّ عليها أحداث “انتفاضة الخبز”.

بدأت الحكاية في مثل هذا التوقيت من العام تقريبا. كان بورقيبة يحكم ورفّع في أسعار السّميد والخبز. محمّد مزالى رئيس حكومته قال:”هذا قرار ومناش متراجعين عليه.” أشعلاها، فاشتعلت. كانت البداية في الجنوب التونسي، ولاية قبلي بالتحديد. حركة اقتصادية تعتمد على التّمور لكن في الاستهلاك على منتوجات الحبوب. فالقمح كان أساس الغذاء عندهم ككلّ التونسيين.

وأنا أروي لابنتي التّاريخ المبسّط اختلطت الصّور والأسماء: محمّد مزالي، محمّد الصّيّاح، سوق الأحد.. والكلمة المفتاح كانت الخبز، لكنّ الحكاية في عمقها لم تكن انتفاضة جوع بالأساس. كانت انتفاضة ضدّ سياسة اقتصادية عوّضت الحماية بالارتهان لصندوق النّقد الدّولي. وكالعادة أوّل الضّحايا الطّبقة الفقيرة الطّبقة الشّغيلة والتي تجوع أوّلا. ولندرك جيّدا أنّ الأمر لم يكن خبزا أو سعر الخبز، لنتذكّر فقط أحداث قفصة سنة 1980. لنتذكّر المرغني وإعدام بورقيبة لذاك التّحرك. الانتفاضة سبقها رفع السّلاح في محاولة لتحرير البلاد من الحاكم الأوحد و”المجاهد الأكبر “.

قلتُ، بقيت أسماء وأسماء بالبال منذ ذاك التّاريخ. حين كبرت، أردت أن أعرف حتّى أبدّد ذاك الخوف وتلك الأصوات والصّور.. صوت الرصّاص.. صوت الهتافات.. صوت صراخ أمّي وهي تنهر أخوالي حتّى لا ينزلوا للسّاحات. ومن المفارقات أنّ خالي حينها كان يشتغل عاملا بإحدى الشّركات بقبلي وكان يزورنا بجمّال بمدينة المنستير، “بلاد بورقيبة”. وفي تصوّري أنّ أولاد القمح وأبناء التّمور هم من حرّك هذه المنطقة وقتها. ليس حكما أو تصوّرا مبنيّا على جهويّات لكن أظنّها الحقيقة. في النّهاية، خرج خالي ورفاقه وكانت أمي تحاول افتكاك لحاف بلون التّراب منه جاء به من قبلي. هذا ما أذكره: “تحبّ تموت!! تحب تنحرني؟! اش عملنا لك؟!”… “سيّب.. قلت لك سيّب!”  كان يرتعش انفعالا وكنت خائفة لكنّي -ولست أري السّبب- كنت أريده أن يخرج مع الجموع الغاضبة. بعدها عاد من المظاهرة وجاء بالأخبار والحكايات.

 “ابكي ابكي يا مسكين الخبزة بمية وسبعين”

“وين فلوسك يا زوالي؟ عند الصياح ومزالي”

“وين فلوسك يا فـلاح؟ عند مزالي والصياح”

“لا إله إلّا الله وبورقيبة عدوّ الله”

مثل هذي الشّعارات رُفعت في المسيرات وأمثال سمعتها تقال من قبيل “إلِّي عامِلْكْ على قُوتِكْ، عاملك على موتك”. المهمّ في ما أذكر أنّ انتفاضة 3 جانفي 1984 لم تستثني أحدا. خرج الكلّ عن الصّمت. شارك في المظاهرة مواطنون من كلّ الأجيال ومن كلّ الفئات الاجتماعية ومن كلّ التيارات السياسية الموجودة (الاتّجاه الإسلامي/ الشّيوعيون/ الحزب الاشتراكي الدستوري وغيرهم) ومن كلّ منظّمات المجتمع المدني وخاصة المنتمون إلى الاتحاد العام التونسي للشغل.

كانت الأحداث درسا مزدوجا للحاكم وللشّعب. الأوّل يعلّمه أنّ الأمن لا تصنعه البنادق والدّبابات، لأنّه في القلوب يكون ومنها يخرج إلى الحياة، وأنّ احترام المواطن لحاكمه لا يكون بالقتل والترهيب. أما الدّرس الذي تعلّمه الشّعب فيتمثّل في أنّ المكتسبات والحريات والحقوق لا تكون منحة ولا فضلا من الحاكم بل تكون بالنّضال المستمرّ، يفتَكّها ويعمل للمحافظة عليها ولا يسمح لأيّ كان المساس بها أو ضربها أو التّلاعب بها. فمتى نتعلّم من تاريخنا ومتى يتعلّم “المثقفون” منّا هذا الدّرس المثالي؟ أم أنّهم سيبقون في مقصورة الانتظار يترقبون “المَنّ والسّلوى” ويتشدّقون بتنظيرات وهميّة يتلهّون بها ويُلهون غيرهم؟

المجد والخلود لكل شهداء الحريّة من تونس إلى فلسطين إلى سوريا إلى العراق والى كلّ شعب صامد يناشد الحريّة ويدافع عن الحياة بشرف وكرامة ونبل. ومهما طال الزمن فإن النصر آت للمناضلين الصاّمدين فـ”للحريّة الحمراء بابٌ… بكل يد مضرّجة يُدَقّ”. وثورة الخبز، تأكّدوا مازالت مستمرّة لأنّ خبز الكرامة حلوٌ وخبز الزّوالي دائما مرّ.

 أرشيف صور وشهادات جمّعتها خلال بحثي في الموضوع:

مجموعة صور للأحداث:

12473662_883509198435275_2783966174294386626_o

من أرشيف جريدة السّفير اللبنانيّة عن انتفاضة الخبزة

صورة الشهيد الفاضل ساسي

صورة الشهيد الفاضل ساسي

الصورة الثالثة على يمين القارئ لحظة سقوط الشهيد الفاضل ساسي

الصورة الثالثة على يمين القارئ لحظة سقوط الشهيد الفاضل ساسي


شهادة د.حسن الجمني عن ثورة الخبز (1983):

قرأت في عدد من الصحف مقالات تتحدّث عن ثورة الخبز بالجمهورية التونسية، واستمعت إلى عدد من التدخلات التلفزية حول نفس الموضوع . ووجدتها كلّها تتضمّن تحريفا للوقائع التّاريخية، فثمّة من يدعي البطولة وينسب اندلاع الحدث لشخصه( أنظر مقالا نشرته جريدة الصباح التونسية في عددها الصادر في 02ماي 2011) وثمّة من يخطئ في تحديد مكان وتاريخ اندلاع تلك الثورة (كما جاء في الملف التلفزي زمن بورقيبة وملف شاهد على العصر على قناة الجزيرة).

ولأنّي ممّن عاش أحداث تلك الثورة منذ انطلاقها في الدقائق الأولى صباح يوم السبت 29ديسمبر 1983 بمدينة (سوق الأحد) من ولاية قبلّي على السّاعة التاّسعة. ونظرا لما قد يكون من أهمّية تاريخية لتدوين تلك الحقائق، ودون أن أدّعي البطولة فيها ودون أن أدّعي أنّي كنت جريحا من الجرحى الثمانية الذين سقطوا بسلاح رجل الأمن من الحرس الوطني علي العابد، أقدّم محاولة لوصف دقيق لما جرى وكيف تطوّر الأمر وانتقل من سوق الأحد إلى مدينة دوز في نفس اليوم ثمّ إلى مدينة قبلّي مركز الولاية من الغد ثمّ إلى مدينة قفصة في 01 جانفي1984 ثمّ إلى تونس العاصمة في 03جانفي 1984.

فقد قرّرت الحكومة التونسية في بداية الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر1983 رفعا مشطا في ثمن رغيف الخبز نظرا للأزمة الاقتصادية التي عاشتها البلاد منذ سنة 1977. وهو قرار أعلنه محمد مزالي الوزير الأوّل في حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة متذرّعا بالأحوال الاقتصادية وبأنّ« المواطنين يرمون الخبز الذي تدعم الدولة تكاليفه في المزابل ويعطونه علفا للحيوانات».وقد فعل ذلك دون أن يتّعظ بما جرى قبل ذلك بالقاهرة ضدّ الرئيس محمد أنور السّادات حين رفّع في سعر الخبز.

وكنت خلال سنة 1983 معلما بالمدرسة الابتدائية (أم الصّمعة) وهي إحدى قرى معتمدية سوق الأحد وتقع على الطريق الوطنية رقم 16، وكانت فترة عطلة شتاء1983. وكان يحلو لي مثل بقية سكان القرى الذهاب إلى السوق، وهو مركز المعتمدية، للقاء بالزملاء والأصدقاء لنتبادل الأخبار والحوار حول صعوبات المعيشة العديدة بتلك الجهة والتي جاء قرار مضاعفة ثمن الخبز ليفاقمها .

لقيت يومها الزميل الهادي الشيخ رحمه اللّه، فعلمت منه أنّ مظاهرة سلمية للاحتجاج على الزيادة في سعر الخبز ستنطلق من قرية (فطناسة) بداية من الساعة التّاسعة وستعبر كلّ القرى الموجودة على الطريق الوطنية رقم 16 حتّى تصل إلى سوق الأحد. فقرّرت المشاركة بالمظاهرة انطلاقا من قرية (زاوية الحرث) حيث مسكني رفقة زميلي الهادي الذي نقلني معه على شاحنته الصغيرة(بيجو 404).

شارك في المظاهرة مواطنون من كلّ الأجيال ومن كلّ الفئات الاجتماعية ومن كلّ التيارات السياسية الموجودة( الاتجاه الإسلامي/ الشيوعيون/ الحزب الاشتراكي الدستوري / الحزب الاشتراكي الديمقراطي/وغيرهم) ومن كلّ منظمات المجتمع المدني وخاصة المنتمون إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. وتجاوز عدد المشاركين الألف.

وصل المتظاهرون إلى مشارف السّوق فاندفع رجال الأمن من الحرس الوطني لصدّهم في البداية ثمّ تراجعوا ودخلوا مقرّ عملهم وأوصدوا الباب. كنت صحبة زميلي الهادي بالشاحنة خلف مقرّ الحرس الذي يوجد بقلب المدينة حينها ، وفوجئنا بعون الأمن المعروف باسم علي العابد يصعد إلى سطح المقر ويثبت رشاشا باتجاه المتظاهرين وبدأ يطلق خراطيش بيضاء في أوّل الأمر ثمّ انتقل سريعا إلى الخراطيش المميتة، وسقط ثمانية (08)رجال أذكر منهم زميلي محمد نجيب البكري الكاتب العام المحلي لنقابة المعلمين(بعضهم استشهد وبعضهم الآخر شفي بعد تلقي العلاج).

كنت أنظر إلى الرصاص منطلقا وأنا في ذهول تام ورعب شديد، كان المجرم الذي لن أنسى اسمه ما حييت يصوّب طلقاته نحو السّوق على مسافة تزيد عن مائة متر، وبستر الله ورحمته لم ينظر الوغد إلى من تحت المبنى، ولو فعل لكنت ميّتا لا محالة إذ لا تفصلني عن رشاشه سوى خمسة أمتار وزجاج الشاحنة. كان صراخ الناس يأتي من كلّ صوب يصمّ الأذنين ، والفارّون يهرولون في كلّ اتجاه.

جاءت سيارة وحملت المصابين إلى مستشفى قبلّي، وعلم أهالي مدينة دوز الأشاوس بالخبر في نفس اليوم فاندلعت مظاهرات أخرى هناك وحمل بعضهم أسلحة صيد يهدّدون أعوان الحرس الوطني بدوز. وسقط جرحى آخرون هناك ممّا زاد من هول المصيبة، وانتقل الخبر إلى مدينة (حامّة قابس ) عن طريق المسافرين على متن سيارات الأجرة فبدأت المظاهرات هناك يوم الأحد 30ديسمبر1983 . وبلغ الخبر مدينة قفصة يوم الثلاثاء 01جانفي1984 رغم التعتيم الإعلامي على الأحداث المذكورة، فلم تخمد نار الثورة بقفصة وامتدّت من مدينة إلى أخرى حتّى وصلت مدينة تونس يوم 03جانفي1984 فكان يوما أحمر تجاوز فيه عدد الشهداء112 حسب بعض المصادر.

ولم تتوقف ثورة الخبز إلاّ في السادس من جانفي بإعلان الرئيس الحبيب بورقيبة التراجع عن القرار بالزيادة في سعر الخبز بخطابه الشهير «نرجعوا وين كنّا».

هذه شهادة أدلي بها كشاهد عيان. وأرجو من كلّ سكّان معتمديات نفزاوة (سوق الأحد) و(دوز) و(قبلّي) الذين عاشوا معي الحدث و الذين لديهم تفاصيل أخرى حوله أن يدلوا بشهاداتهم كي تبرز تلك المحطة الناصعة من تاريخ الجهة . ولا أطلب ذلك للتبجّح فقد شارك كلّ التونسيين الأحرار في ثورة الخبز ولكنّي أفعل ذلك لكشف حقائق قد تساعد في قراءة الحدث من طرف المختصّين في علم التّاريخ بشكل أفضل . فما أردت إلاّ الإصلاح واللّه أعلم. هل تبدل الحال أم أنّ ثورة الخبز ما زالت مستمرة؟

قربة في 04ماي 2011،


شهادة عادل الثابتي ثورة الخبز (1983):

3جانفي 1984، ليلة الاثنين/الثلاثاء 3/2 جانفي وبعد أن وصلتنا أصداء التّحركات في الجنوب -كنّا تلاميذ في المعهد الفنّي بالمنصورة بالقيروان- عُقد لقاء في بيت خارج المعهد في الحي المجاور، حي المنصورة.. المشاركون تلاميذ من مبيت المعهد وتلامذة خارجيون من أحياء القيروان. جدول الأعمال نقطة واحدة: تنظيم تحرّك كبير في القيروان بخروج مسيرة كبرى من المعهد.

صباح الثلاثاء كلّ من تم تكليفه بمهمة قام يتنفيذها: تعليق شعارات في كافة أقسام المعهد الـ 64 وتحضير اللّافتات. بعد اجتماع حاشد فوق خزنة الماء بالمعهد، توجّهت مسيرة ترفع الرّاية الوطنية إلى المدينة أمام مصنع التبغ المجاور للمعهد. لعلع الرصاص في مواجهة المسيرة السلمية سقط الهادي البرهومي تلميذ السابعة رياضيات تقنية مضرجا في دمائه. “لا سلم في مواجهة الرصاص” اخترقت المسيرة قوات النظام العام القادمة من سوسة واشتبكت مع البوليس في مستوى محطّة النقل بحي محمد علي. تمّت مهاجمة مقر لجنة تنسيق حزب الدستور بالقيروان. سحب الدخان انبعثت من كل أرجاء المدينة بعد أن التحقت جموع المواطنين بالمسيرة.

بعد أيام من 3 جانفي ومن محاكمة شعبية في المعهد لأحد مخبري حزب الدستور في معهد المنصورة انطلقت حملة اعتقالات في صفوف الشباب التلمذي. تمّت محاكمة بعض التلاميذ. وأرسل وزير التربية برقيّات إلى أوليائنا كُتب فيها نصّ قصير “لقد تقرّر طرد ابنكم من جميع المعاهد والرجاء الاحتفاظ به تجنّبا لكل المضاعفات.” عندما كان التلاميذ يجتازون امتحان الباكالوريا كان 64 تلميذا من معهد المنصورة ينتظرون أن يُسمح لهم في السّنة القادمة بالدراسة في المعاهد الحرة. ارتقى منا شهيد (الهادي البرهومي) وأُطرد منّا 64 وتمّ تقسيم المعهد بجدار صخري كبير. 

المحاكمون بثلاث سنوات سجن :
العربي الحداد
زهير العباس
… الوصيف (قد أكون مخطئا في الاسم)
المطرودون:
محمود قويعة
حسن العكرمي
النوري المسعودي
فرج قريبع
عبد العزيز الهرابي
محمد البلطي
يوسف الزايري
… السالمي
نور الدين عبد الله
عادل الثابتي

نسيت البقيّة معذرة، والمجموع 64 تلميذا.

الشهيد هادي البرهومي

رحمك الله يا هادي البرهومي. هل تنصف العدالة الانتقالية هذا الشباب التّلمذي الذي اتُّهم بارتكاب الأعمال الوندالية من قبل الوزير الأوّل آنذاك الذي صرّح أنّه بالإمكان أكل الموز والياغورت بدل الخبز. في ذلك الزمن الناس لا يلحقون على شراء الخبز ووزراء المناطق المحظوظة يطلبون منهم أكل الموز والياغورت.


أغنية “يا شهيد الخبزة رجعت” من كلمات الشاعر الأزهر الضاوي:

 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

ريم سعيداني

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..