سياسة سياسة و مجتمع مجتمع

عاهات وتقاليد: “نفسي أطلع ضابط”

إذا كنت واحدا من التسعين مليون شخصا الذين يعيشون في مصر، فستفهم كلامي جيدا. وربّما تتعجب أيضا لأنّك لم تلاحظ بعضا من تلك العادات أو العاهات -سمّها كما تشاء- البسيطة في تعاملاتك اليومية. بعد الفحص والبحث وسؤال الأصدقاء من مختلف البلاد اكتشفت أنّ هناك بعضا من تلك العاهات التي لا نشترك فيها مع أيّ من سكّان الكرة الأرضية خارج “مِصرِنا”. هناك أيضا إحقاقا للحق، بعض من العاهات التي نشترك فيها مع بعض البلدان العربية التي ليست في حال أفضل بكثير من حالنا.

على أيّ حال، سأتناول في مقالي هذا وربما مقالاتي القادمة أيضا تلك العاهات “منفردة” محاولا أن أطرح الأسئلة التي درات في ذهني عندما حاولت أن أجد تفسيرا منطقيا لها. وما الذي حوّلها في أذهاننا من مرحلة العاهات إلى مرحلة العادات التي نسلّم بها ونتلفّظ بها أو نفعلها دون التفكير في ما إذا كانت صحيحة أم لا؟

“نفسي أطلع ضابط”

 – “نفسك تطلع ايه لمّا تكبر يا حبيبي؟” سؤال سُئله كلّ طفل مصري تقريبا والإجابة محفوظة بل ومحفورة في ذهنه وملقّنة تلقينا جيّدا :

– “نفسي أطلع ضابط /مهندس/ دكتور.”

الضابط والطبيب والمهندس:

هل سألنا أنفسنا يوما ما لماذا بالتّحديد هذه المهن؟ الجواب لا يحتاج تفكيرا، فالضابط (وبالمناسبة ليس بالضرورة تحديد إذا كان ضابطا في الشرطة أو في الجيش) هي مهنة ذات سمعة رنّانة في المجتمع المصري. فإلى جانب الامتيازات التي سيتمتّع بها الشّاب من مسكن شبه مجاني في حيّ راقي وسيّارة شبه مجانية واشتراكات نوادٍ رياضية واجتماعية له ولأسرته بالكامل، فهو يتمتّع أيضا بنوع من أنواع السّلطة والنفوذ وبالطبع براتب مرتفع. كل هذه الامتيازات تجعلها حقا وظيفة الأحلام لكلّ شخص منذ نعومة أظافره حتى بلوغه سنّ الشباب.

الأمر للأسف لم يعد كذلك بالنّسبة للمهندس أو الطّبيب. فعلى الرغم من تدهور المهنتين في الأعوام الأخيرة، لنرى المهندس سائق تاكسي ونرى الطبيب يُضرب ويعتصم ويتظاهر من أجل زيادة راتبه بضعة مئات من الجنيهات التي لا تسمن ولا تغني من جوع إلّا إذا كان صاحب عيادة خاصّة تدرّ عليه مزيدا من الأموال. وبالرّغم من هذا ظلّت هاتان المهنتان حلما يراود الكثير من الطّلاب والأطفال، ربما ليس أكثر من الرغبة الشديدة له ولأسرته في الحصول على لقب “باش مهندس” أو “دكتور” فلان.

النّقاط السابقة تجعلني بالمناسبة أطرح سؤالا آخر. في حالة أراد كلّ طفل أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا فمن الذي سيصبح عامل المصنع؟ من الذي سيصلح سيارتك إذا تعطّلت هذا طبعا في حالة كانت لديك سيّارة من الأساس؟ من سيقف أمام المحكمة في حالة (لا قدّر الله) اتُّهِمت ظلما وبطلانا في إحدى القضايا وأُرغمت على الوقوف أمام العدالة؟ (هذا إن كانت هناك عدالة في مصر من الأساس).

المعلّم والمحامي:

يقول المثل الشّهير والذي نراه مكتوبا بحروف عريضة على حوائط مدراسنا “من علّمني حرفا صرت له عبدا”، ولكن ماذا عن هذا الشّخص الذي يعلّمك المنهج بالكامل؟ هل سمعت يوما ما طفلا يقول:”نفسي أطلع مدرّس/معلم”؟ من المفترض أن تكون المحاماة أجمل مهنة في العالم. فالمحامي يلجأ إليه الأغنياء والفقراء على السّواء، ومن عملائه الزعماء والعظماء. يضحّى بوقته وصحّته وحتّى بحياته في الدّفاع عن متّهم بريء أو ضعيف مهضوم الحق. لا أعتقد أنّ هكذا توصيف يتناسب مع وضع المحامي المصري. فليس في مصر أحد ضعيف أو مهضوم الحق أكثر من المحامي. هل قابلت في حياتك طفلا يريد أن يصبح محاميا؟ كليّة الحقوق في مصر وكالعادة على النّقيض من كلّ دول العالم هي المكان الذي يجمع كلّ من لم ينجح في الحصول على درجات جيّدة في امتحان الثانوية العامّة وبالتالي فهي دائما مكتظّة بالطّلاب، ولكنّ خرّيجها يعمل في أيّ مجال وأيّ وظيفة ما عدى الحقوق، ربّما لأنّه من النّادر أصلا أن يعرف المصريّ أن لديه حقوقا.

كليات التجارة، الرّياضة والفنون:

“وراء كلّ حجر من الحجارة، خرّيج كليّة تجارة” هذا المثل يلخّص كلّ ما كنت أودّ قوله عن كلية التجارة والملايين من خريجي كليّة التجارة الذين يعملون في كلّ مهنة وأيّة مهنة ما عدى التّجارة. أمّا عن بعض الكلّيّات الأخرى والتي أُطلقُ عليها شخصيّا لقب “كليّات الكومبارس” كسياسة واقتصاد وإعلام وغيرها، فهي ليست سوى “اسم وسمعة” لمن يلتحق بها. وهو يعلم تماما أنّه بنسبة تسعين إلى خمسة وتسعين بالمائة، لن يعمل بعد تخرّجه لا في السّياسة ولا الاقتصاد ولا الإعلام. ولكن اسم الكليّة وسمعتها و”الاستايل” جعله يختار إحداها.

هناك أيضا في مصر كليّات على الهامش تُدعى الفنون والآداب والتّربية والتّربية الرياضيّة، ولكنّي لن أعلّق عليها جميعا. فقط سأنصحك بمشاهدة أحد أفلام “السّبكي” أو الاستماع إلى سيمفونية من سيمفونيات “أوكا وأرتيجا” أو مشاهدة تصريحات أحد رؤساء الأندية الرّياضية لتعلم تمام العلم إلى أيّ مستوى وصلت الفنون والآداب والتربية والرياضة في مصر.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

محمد عطاالله

مصري، حاصل على شهادة الليسانس من قسم اللغة الألمانية بكلية التربية جامعة عين شمس. مقيم في ألمانيا دارس في السنة الاخيرة للماجستير في السياسات العامة وأساليب الحكم الرشيد بجامعة اوسنابروك بغرب المانيا.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..