سياسة و مجتمع

مطرقة ومنجل .. القمع بين السّياسة والدين

الكاتب: علي سام

كان أستاذ الفيزياء في “إعدادية القدس للبنين” أحد أطول العراقيين الذين التقيتهم في حياتي بقامة فارعة تجاوزت المترين وجعلتنا نحن الأولاد نتشارك النكات عنه: “هل يصل الماء الى الطّابق العلوي؟”، “كيف هي حالة الطقس في الأعلى؟”.

في أحد الأيام كان “أستاذ خيرو” يقف مراقبا علينا في امتحان الرّسم وكان موضوع الامتحان عن العمّال. بعد تفكير بما سأرسمه، أمسكت قلمي بنزق ورسمت شعار الحزب الشيوعي ” مطرقة ومنجل ” لكن، “أستاذ خيرو” مرّ قربي قبل أن أنهي الرّسم. نظر إلى ورقتي ثمّ أمسكها دون كلام. ومزّقها إربا إربا، ووضع قصاصاتها في جيبه. ثمّ أعطاني ورقة جديدة وهمس في أذني:”هذا الرسم قاد أهلنا إلى الإعدام في الستينيات، أمّا اليوم فلا أعرف ماذا سيفعلون بك وبأهلك. تقديم ورقة فارغة أسلم بكثير من تقديم ما رسمت.” لم أتحدث مع أستاذ خيرو بعدها سوى في أمور حصّة الفيزياء وبدا لي وكأنّه نسي كلّ شيء عن تلك الورقة الامتحانية. 

دون أن أفكّر كثيرا، وربّما بتصوّر مدفوع بهياج المراهقة، كنت قد دخلت إلى لحظة حاسمة في حياتي، ولو إنّ أستاذي كان شخصا آخر، لكنت قد انتهيت في قبو في مراكز الأمن. ومن يعرف ما كانت ستكونه النهاية! في سجون الدّول القمعيّة هناك نوع من المساجين الذين لم أسمع عنهم في أوروبا. وهؤلاء هم من يُسجن تحت مسمّى “سجين سياسي”. والسجين السياسي قد يكون طفلا رسم ” مطرقة ومنجل ” أو ربّما هو شخص فقد صوابه أو عاد إليه فجاهر برفضه للنّظام الحاكم. هو أيضا أيّ شخص ينتمي إلى حزب معارض أو يقوم بنشاطات اجتماعية تشكّل تنظيما يقلق قوى الأمن الوطنيّة. 

قاد هذا البطش في التعامل مع أيّ شخص ينظّم أو يفكّر أو يعترض إلى ما وصلت إليه بلادنا اليوم. فمن المستحيل أن تعلِن انتخابات حرّة، دون أن تكون لك قاعدة من الأحزاب. وبدل أن ينتخب البشر في داخل نظام ديمقراطي يختلف فيه اليميني مع الاشتراكي، ومن يريد أن يرفع الضرائب مع من يريد أن يلغيها، اختلفنا على الشيء الوحيد الذي نفهمه: طوائفنا وأدياننا وأعراقنا. وعاد بعض مفكّرينا ليكتشف أنّ البطش الذي تعرّضنا له ودمّر بلادنا وشخصيّاتنا هو النظام الوحيد المناسب لشعبنا لأنّنا لا نفهم أيّ شيء سوى القوة.

تكفير البشر وقتلهم من أجل انتمائهم الدّيني أو لأنهم يرفضون الدّين ليس سوى ذات النّظام القمعي. في شكله الاشتراكي العراقيّ، كان المذنب يسمّى سجينا سياسيا وفي شكله الدّيني يسمّى كافرا أو رافضيا. أيّ نظام يحاكم البشر على أفكارهم وتصريحهم بها وتعبيرهم عنها هو نظام جائر وأيّ نظام يمنع البشر من الّنشر والتنظيم والاعتراض هو نظام قمعي بطبعه. وللأسف فإنّ الكثيرين منّا يدافعون عن أنظمة من هذا النّوع ويعتقدون أنّ الخلاص لن يأتي حتى يأتي من يقتل كلّ معترض.

أستاذ خيرو، شكرا لك!

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

علي سام

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..