سياسة و مجتمع

المشهد السياسي التونسي: مابعد اليأس أو لماذا اخترت الربوة

الكاتب: حمزة حيزي

الساعون إلى التغيير عموما وأولئك الذين ينشدونه من خلال الفضاءات التي لم نشهد لها من دور غير صناعة الوهم، الشخصيات الوهمية -والأحاسيس الوهمية والمكانة الوهمية- أراهم كأنّهم سائق قطار بلا فرامل قرّر أن يضع ساقيه بين عمودي السكة حتى لا يفوّت على الناس محطاتهم ومصالحهم. النوايا طيبة، ربما، لكن الآلية لا تجدي نفعا حتما. الإيمان بجدواها غباء والعمل بها بعد كل هذا اليأس مضيعة للوقت. وربما كان من الأفضل أن نتمثل صورة سائق القطار الذي يبصق في كلّ المحطّات ويلعن مدن الصمت وسكّانها. فهو على الأقل يقوم بردّة فعل ما على واقع لا يستحق غير البصاق. رائحة الحياة هنا باتت تُشمّ على عناء، وبتنا نشتّت الجهد في لملمة أشلاء الأفكار الممزّقة المتناثرة ملء البصر، ورياح اليأس العاتية ترمي بها في كل النواحي. نسخة اليومي التي ما تنفك تتكرّر أينما وليت وجهك في هذا الوطن المغبون.

أقرأ على صفحات الجرائد وبعض المواقع اليوم أخبار الاحتجاج الاجتماعي المكثّف وارتفاع الأسعار والتّلويح بتسريع خطى تفقير من قاوموا طويلا عند شفى جرف الهاوية، فأتساءل عن حدود الممكن في ظل هذا المناخ وإن كانت “خزنة الحلول الممكنة” تحوي أكثر من احتمالي البصاق أو التضحية بسيقان سائق القطار، فلا أجد. لا النخبة التي شُيطنت وبُخست حقّها ولا الفهلوية الذين تصدّروا واجهة الأحداث قادرون بالفعل على صناعة لوغوس جديد جلي محايث للحظة الراهنة وعميق على قدر عمق جراح من تضرروا من الحيف الطبقي والاجتماعي. النّخب لا تحاول، و إن هي حاولت لا تسمع والفهلوية الذين يمتلكون مفاتيح المال والستائر والمسرح أقدَر على صناعة الفرقعات التي لا طائل منها غير الفرجة.

ربما يراني بعضكم وقد بلغت حد اليأس وربّما يقاسمني كثيرون ما أشعر به، لكن اليأس ليس أبدا مرادفا لليقين بالعجز. اليأس دليل حياة. وحدهم الأحياء من ينتجون مشاعرا. ما نحن فيه وما نشهده في عيون الناس حتى وهم يسرقون بعض لحظات الفرح في حدود ما يسمح به النظام هو اليقين باستحالة أن يكون أمامنا غير الوراء. النخب والمجتمع في حالة قطيعة لن تعالج قبل الطوفان حتما ومن نجحوا في خلق قنوات تواصل مع الناس لا يملكون أدوات التغيير ولا شيء في حقائبهم غير بعض القشور.

قرأت منذ أسبوع حوارا لإدواردو ألباران يتحدّث فيه عن إمكانية استعمال الفلسفة لمكافحة الفساد، تحدّث عن الوعي بالضرورة. فكّرت مليّا في الأمر، أقصد إمكانية أن يتكلّم بعض فلاسفتنا وهم جيّدون حقّا وأدوارهم تنتظر أن يجدوا سبيلا لاختراق البنى التحتية للمجتمع بصفاتهم تلك -أقصد كونهم فلاسفة أو نخبا- . تحدّث ألباران عن شرط إنتاج لغة مشتركة وخلق توازن بين سعادتنا وسعادة الآخرين. وهذه الأرضية لا يصنعها إلا المثقّفون العضويّون المرتبطون بهموم المجتمعات والقادرون على رسم أفق، حلم وصناعة لغة خاصة به، و هؤلاء فشلوا فشلا ذريعا في الالتحام بالناس أو ربما أريد لهم أن يظلّوا معزولين عنهم. ربّما لأنهم لم يجدوا مساحة أو لأنهم لم يستوعبوا أدوارهم . وحتّى وأن استوعبوا تلك الأدوار لا مجال لأنّ تتّسع قنوات التواصل الرديئة المتاحة لرسائلهم وهي التي تغص بتناطح لوبيات المال والسياسة وأخبار فنّاني الكيتش و إصداراتهم وبرامج اللاذوق.

أمّا إرادة الثورة على القواعد والتقاليد والمؤثرات الاجتماعية السلبية التي تكسر حالة السكون العقلي فقد تحوّلت إلى تمرّد على القوانين الأساسية التي تجعل من العمل المشترك لفئات مختلفة من الأفراد أمرا غير ممكن. والوحيدون القادرون على رسم الحدود بين الفوضى والحرية والإقناع بحتمية احترام القوانين الأساسية وشروط التعايش المشترك وتأمين الانتقال من القمقم إلى فضاء الحلم الوطني هي النخب النخب التي لم تجد وهي التي أقرّت بفشلها في كسر الجدران التي تفصلها عن الناس وأقصد هنا جدران المتمعّشين من الجوّ الرديء من منتحلي صفات نشطاء وفعاليات وسياسيين ووطنيين إلخ.. لم تجد حتى في منظمات المجتمع المدني وساطة مناسبة نظرا لما تعانيه هذه المنظمات نفسها من هنات ومشاكل وضعف وأحيانا شبهة.

تجارب شبابية مختلفة وجمعيات ومنظمات تمّ تصميمها منذ البداية على أنها كيانات ميتافيزيقية تمثّل أفكارا جيدة بالضرورة مجرّدة عن الطريقة التي يتصرّف عليها الناس، عن لغتهم وقوانينهم و تصوّراتهم. وعندما شرعت هذه الكيانات في أداء ما رسمته لنفسها من أدوار غلبت عليها طبيعة خرق القواعد وتسلّل إليها الفساد تدريجيا. دون أن تقبل فكرة غير أنّها مؤسّسات تتسمّ بالكمال. وحالها هذا مع ضعف تكوين القائمين على أغلبها وإن حسنت نوايا بعضهم أغفتلهم عما قاله القديس أوغسطين بأن الفساد يعني أن البشرية قد حرمت من أمر صالح كان يفترض أن يقع، وأن اضطلاعهم بأدوار أكبر منهم قد حرم الإنسانية من الاستفادة من أدوار أشخاص آخرين لهم من القدرة والتكوين ما يكفي للمساهمة في صناعة أفق الحلم وخلق لغته الخاصة ورموزه و رمزيّاته.

-يتبع-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

حمزة حيزي

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..