علم نفس

الاستدلال المدفوع.. حين نعدّل الحقائق وفق معتقداتنا

 تقول دراسة تمّ إجراءها في خمسينات القرن الماضي أنّ عقولنا مصمّمة لتعديل الحقائق التي نستمع إليها بحيث تتّفق مع قناعاتنا. يُسمّى هذا السّلوك بالاستدلال المدفوع/Motivated Reasoning”، ويعني أنّ إدراكنا ومعالجتنا للحقائق يتأثّر كثيرا بدوافعنا وما نؤمن به. أي أنّ ما تظنّه تفكيرا منطقيّا مبنيّا على حقائق قد يكون في أحيان كثيرة مجرّد تفكير عاطفي مدفوع من قيمك وما تؤمن به مهما بدا تفكيرك منطقيا ومحايدا.

ظهر ذلك بوضوح في التّعليقات على خبر موجات آينشتاين الذي كان -في رأيي- الخبر العلميّ الأكثر تفاعلا على الإطلاق منذ بدأ عصر الشبكات الاجتماعية. ومع التفاعل الهائل، ظهر التّنوع الهائل في كيفيّة تناول كلّ شخص منا لهذا الخبر. نفس المعلومات ونفس الحقائق، لكنها ظهرت في صور عدّة!

على سبيل المثال، سارع كثير من الأصدقاء والمتابعين على فيسبوك في ربط هذا الاكتشاف بالإعجاز العلمي في القرآن، وربطه كثيرون بالآية: “يوم نطوى السّماء كطيّ السجل للكتب” للدلالة على ما سيحدث في يوم القيامة. “نظريّة الانسحاق الكبير هي النظرية الأكثر قبولا بين علماء الفلك، تؤيّدها وتدعمها هذه الآية الكريمة”. لعلّك سمعت مثلي هذه الكلمات لـ د. زغلول النجار في أحد لقاءته التليفزيونية، وهو يتحدث عن أنّ قوّة الدّفع النّاجمة عن الانفجار الكبير تضعف وأنّ قوّة الجذب ستغلب وحينها سينسحق الكون على نفسه وتتحقق الآية. يعيب هذه الكلمات أمر واحد فقط: أنها خاطئة.

نعم كان العلماء يظنّون أنّ اتساع الكون يتباطأ حتى العام 1998، حين أثبتت تجربتان مستقلّتان اكتشافا أدهش المجتمع العلمي حينها عندما أعلنوا أنّ الكون يتمدّد بتسارع، وكان هذا الاكتشاف نقطة تحوّل هائلة في فهمنا للكون لدرجة أن فريقي العلماء المشرفين على التجربة نالا جائزة نوبل. هل الآية خاطئة إذن أم أنّ فهمنا لها كان خاطئا؟ لا ألوم د. زغول النجار بالطبع على نشره هذه المعلومات الخاطئة، ولعلّ مجهوده الهائل في التّنقلّ بين الفضائيات صباحا مساء منعه من الانتباه لهذا الاكتشاف الذي أصبح حديث المجتمع العلمي وأساس فهمنا للكون منذ قرابة 20 عاما.

نعم يمكنك أن تثبت بموجات آينشتاين الإعجاز العلمي في القرآن، ويمكنك أن تثبت بها أن الآيات القرآنية خاطئة. يمكنك أن تثبت بها عظمة الخالق، ويمكنك أن تثبت بها عدم وجود خالق للكون. وستجد على الشبكات الاجتماعية كلا الفريقين وكلّ له أدلّته المنطقية المقنعة. يمكنك أن تُضيع وقتا هائلا في البحث عن خفايا وأسرار وبواطن المعلومات التي تراها أمامك، أو يمكنك “فقط” أن تنظر للمعلومات نفسها لتحاول فهمها بدلا من تركها والبحث خلف كواليسها. وصدّقني ستجد الفائدة والمتعة الأكبر في الثانية، وضياع الوقت وجدالا لا ينتهي في الأولى.

تقول دراسة علم النفس التي أشرت إليها أنّ عقولنا مصممة لطي الحقائق ، لكن ظنّي في النهاية أن الخيار بيدك.

لمزيد الاطّلاع:

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

إبراهيم العوضي

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..