سياسة و مجتمع

عن ” الدجاج المحشي ” وتطوّر الأمم

الكاتب: علي سام
 علّمت صديقين كيفية إخراج عظام دجاجة دون تقطيعها أو تقطيع الجلد لكنّ أحدا لم يُعلّمني. حدث ذلك في بدايات التسعينيات حين سألتني شابة إن كنت أجيد الطبخ فقلت لها إنني أعرف أكلة يهودية عراقية يُحشى فيها الدجاج بعد إخراج عظامه، الدجاج المحشي. وتماما كمّا كنت قد تمنيت وخطّطت، تعجّبت الفتاة وأُعجبت بي ولم تهتمّ كثيرا حين جلسنا سويّة ولم أنجح في إخراج العظام ولا أنا نجحت بتحضير طبقٍ قابل للأكل.

يوم السبت الماضي، حضّرت أربعة دجاجات بدون عظام وحشوت الجلود دون أن أقطّع أيّ شيء وهي عمليّة تتطلّب الكثير من الصّبر والتحكّم بالسّكّين ومعرفة العظام التي يجب أن تخرج في البداية. وأنا أُخرج العظام، حاولت أن أتذكّر عدد المرّات التي حضرت فيها هذا الطبق الذي كنت أتصوّر أنّه أكلة “التبيت” اليهودية العراقية ثمّ اكتشفت أنّه يسمّى “الدجاج المُسحّب” ولا أعرف أصل الأكلة. وجدت أنّني في كلّ مرّة حضّرت فيها الطبق، كنت أريد أن أُبهر امرأة أو أكسب ودّها. وإن لم تخنّي الذّاكرة، فقد فشلت في أكثر المحاولات أو أنّ الطبق لم يكن أساسا في تقييم شكل العلاقة بيني وبين رفيقة المطبخ. حين حضّرت الطّبق لزوجتي في بداية علاقتنا، قالت: “كلّ هذا العناء من أجل أن تطبخ دجاجة محشية؟”

في ذاكرتي، وجدت أنّ أكثر الأشخاص الذين انبهروا بالطبق كانوا رجالا. الشخصان الوحيدان الذين أصرّا أن أعلّمهما طريقة إخراج العظام، كانا عالم فيزياء وعالم رياضيات. تستغرق عملية إخراج العظام قرابة الساعة. ولأنني حضّرت أربعة دجاجات، جلست لأربعة ساعات أتذكّر أشياء كثيرة عن الطبق، وكيف تحسّنت قدرتي بتحضير الطعام مع السنوات. سألت نفسي إن كنت أريد أن أُبهر أحدا من الأشخاص الذين زارونا في عشاء السّبت، لكنّني تصوّرت أنّ حاجتي لإبهار الأشخاص قلّت كثيرا من أيام مراهقتي إلى اليوم، رغم أنّني متيقّن أنّني تعلّمت الطبخ مدفوعا برغبة عارمة لإسعاد امرأة. أسعدتني هذه الفكرة وجعلتني أدرك كم تطوّرتُ في أشياء كثيرة كالطبخ والعلم والقراءة، حين كنت مدفوعا في الأساس برغبة بالحبّ والاقتراب الجسدي من إنسانة أخرى. ربّما هو شعور مراهق، وقد أستطيع أنا أو شخص آخر أن يصفه بالسّطحيّة لكنّه، الحقيقة كما أعرفها.

بعد أن تُفرغ الدّجاجة من العظام، تصبح كالكيس وتفقد شكلها. ولحدّ هذا اليوم، أتذكّر صديقا نرويجيّا نظر إلى الطّبق الذي وضعته على الطاولة وسألني:”ما هذا الطائر؟”. وحين قلت له أنّه دجاجة محشيّة، رفض أن يصدّق لأنّ الحشو يجعل شكل الدجاجة مختلفا تماما عن شكلها بالعظام. الهيكل العظمي الذي لا نراه هو ما يقرّر طولنا وشكلنا الخارجيّ ووسع أحواضنا وشكل رؤوسنا، وبدونه نفقد قدرتنا على المشي والوقوف والإمساك بالأشياء والأكل والتحدّث. 

يوم السّبت، وبعد أن أخرجتُ العظام ونظرت إلى شكل كتلة الجلد واللّحم، فكّرت بطريقتنا الشّرقية في التفكير، التي تبحث دائما عن شخص أساسيّ، كأن يكون أهمّ كاتب أو كاتبة أو مثقّف أو مفكّرة أو يكون القائد الذي سينقذنا من حالنا. حاولت أن أتصوّر هيكلا عظميا بعظم واحد، وبسرعة ضحكت على الفكرة. فكائن كهذا لن يستطيع أن يمشي ولا يتحرّك بل سيكون ساكنا كالعمود. 

التطوّر بكلّ أشكاله، ثقافيّا كان أو اجتماعيّا أو علميّا، قائم على هياكل كبيرة وعظام متعدّدة ومفاصل لها حريّة الحركة. والسّؤال عن من أفضل من غيره ومن الأهمّ، ليس سوى بحث عن هيكل عظمي بعظم واحد لحمل مجتمع كبير ومعقّد. هناك أشياء لا تحدث سوى بوجود حركات جماعيّة وإن لم نتقبّل الاختلاف بالأشكال والأحجام والوظائف، ولم نعطي عظام الأصابع الصغيرة ذات القيمة التي نهبها للعمود الفقري، فلن نكون سوى ذلك الكيس الذي أُفرغ من عظامه ولم يعد قادرا أن يشبه حتى نفسه.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

علي سام

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..