أدب أدب وثقافة

كاتب القصص وجامع القمامة وقطة سعيدة الحظ 

كاتب-القصص
الكاتب: رومان صبري

جلس كاتب القصص ينظر إلى مكتبته الممتلئة بقصصه الشهيرة التي تتحدث عنها المدينة. كانت غرفته مبعثرة والهواء الشديد يخترق النافذة ويساعد في نشر الفوضى، فوقعت أواني الفخّار الفارغة وتحطّمت. ذهبت قطّته الهادئة تبحث بين الحطام عن شيئ تأكله أو تلعب معه. رأى أنّه سيئ الحظ لم يلعب مع قطتة منذ شهور. لقد اكتشف أنّه  يكتب قصصا درامية فقط ولا يستطيع أن يكتب قصصا تسعد الناس وتقودهم إلى البهجة، مثل الذهاب إلى حجرة النوم والحصول على القبلات وغلق باب الحجرة جيدا. كاتب القصص حزين. لقد أخذ حياتة دوما على محمل الجد. لقد حاول الهروب من هذه الطريقة لكنه لم يستطع أو بشكل أوضح كان من المفروض أن يحاول أكثر، لطالما أحبّ أن يكتب أفكاره في قصصه ودائما ما كان يردّد مقولة صديقه الوحيد جون.  

كان يرى المكان كأول مرة، فقال: “إنّه أمر سيء لي أنا صاحب اللحية البيضاء الأعزب الذي لم يحبّ الظهور على شاشات الميديا.” تخيّل أنّ ضوء القمر ينير إحدى كتبه وسط الفوضى. ذهب وأمسك كتابه وأخذ يقلّب أوراقه بطريقة عشوائية. نظر إلى قطته وقال في نفسه: “عندما يعيش في الغرفة إنسان واحد، على الحيوانات ان تستمع له.” تمشّت القطة ناحيته وقفزت فوق كتفه. ظلّ يداعبها وبعد أن انقضت عشر دقائق، قرأ لقطته بصوت عال كلمات وعبارات مشهورة من كتابه ووجهه يلمع من كثرة العرق:

“كنت أعلم أنني سأحبّهم قبل أن يصاحبني المرض، فتلك هي غرابات الأشياء.” سارت في طريق الوادي ليلة بأكملها واكتشفت أنّها تعرّفت على حقيقة القمر الليلة فقط. عاودت الأم التفكير مرّة أخرى وغفرت لزوجها مقابل أن يجعلها تصنع له كعكة ويقبّلها من رأسها! ظنّ أنّ الموت يقترب منه رويدا رويدا وعندما صارعه، اكتشف أنّ الموت لا يصارعه أحد فعلم أنّه كان يصارع القلق ليس أكثر. ولم يستطع أن يقضي عليه، فالقلق مثل الثّعالب لا يمكن نصب فخّ له بسهولة. أتمنّى أن أرى القاتل لأقتله إذا استطعت. أعرف أنّي أصعّب الأمر لكنّي بشري وأستطيع التخيل. كلّ الأشياء الجيدة تذهب إلى جون الفقير، جون من علّم أهل قريتة احترام الفقر، أو بشكل أوضح جعلهم يتصنّعون ذلك لأنهم يشعرون بالحرج من قوّته وثباته. جون يحب الرب ويدفع العشور والرب يحبه كثيرا. جون لم يحلم بامتلاك زورق لأنّه كان صديقا لبرق السماء عندما يجلس جون مع صديقه الكاتب يشربان السجائر، تضيء  سيجارة جون وتبعثر دخانها مع همس الليل الذي يهبط في موعده. جون كالموج المترامي في أحلام الأطفال. عندما رأى جون طفلة صغيرة جائعة قال لها: “اطمئني. أقسم لك باسم الرب أنّها ستكون ليلة من أجمل الليالي. سنأكل ونطعم بعض العصافير ثم سنلهو مع الكثير من الضفادع .”

ظل يقرأ كثيرا حتى أصابه الضّحك الهستيري. وقام بإلقاء قطته في الهواء وأمسك بها في سعادة. قال لها: “قد يشتكي الرجل من نفسه ومن مواقفه ومن دموعه وجنونه وحيرته. ويذهب إلى الجنوب أعواما ويشعر أنّ حياته بكلّ ما فيها فارغة، ويرى الموت يحتسى القهوة مع القلق ويعلنان صداقتهما ضدّه وضدّ من يحبّ. يعتبر جميع الأشياء في حرب معه، فيصاحب جنونه ويسلمه نفسه ويعلنه حاميه الوحيد وحصنه. وكلّما يدعوه تفكيره إلى الوصول إلى وعيه يقاطعه قائلا: “جنوني هو وعيي وهو نعمتي وهو الذي سيقودني إلى دخول قبري راضيا.” قبل أن يستمع إلى إمساك البوليس بالمهرّبين في حانة المدينة ويقول هؤلاء الأوغاد لا يحترمون الشعير، همس في أذن قطته بصوت هادئ: “رغم ذلك لن أتمنى أن أكون قطة مثلك. وأنت أيضا لا تتمنّين أن تكوني بشرية، لذلك نحن متعادلان.”

كانت ليلة جيدة قضتها القطة مع ذلك الكاتب المجنون الذى عرفتة مؤخرا. وبعد تلك الليلة، عندما يعود إلى حالة التّوحّد، تمسك القطة بأسنانها أحد كتبه وتعطية له فيقرأ لها بشكل عشوائي ويخرج من حالة التوحد. هي لم تدرك أنه يقرأ لنفسه أوّلا، فهي قطة مغفلة كباقي القطط، لكنّها تعلم أنّه بشري لذلك هو مغفل بشكل أكبر

في آخر ليلة جمعته بصديقه جون  الذي قُتل منذ أيّام في حادثة تسبَّب فيها  سائق سكّير، قال له: “لا يريح الإنسان إلّا كلماته حتى وإن كانت السبب في تدميره يا يوسف. أنت صديق قديم وأنا أحبّك عن الجميع. أنت عازب وعجوز مثلي. كنت ترى الفقر صديقك، لذلك رفضت أيّ مساعدة ماليّة منّي وقلت على الإنسان أن يحترم أصدقاءه مهما كلّفه الأمر.

جون هو صديق الطفولة والشباب والشيخوخة بالنسبة لكاتب القصص. كان فقيرا مثل صديقه الكاتب لكنّ الكتابة جعلت من صديقه ميسور الحال فقط لأنّه لم يكتب من أجل المال مثل باقي كتّاب جيله. عمل جون في شركة لجمع القمامة. كان جامع القمامة الأشهر في المدينة وظلّ في هذا العمل حتى شيخوخته. وصداقتة مع الكاتب لم تتغير أبدا. وصفه الكاتب بأنه من أجمل البشر الذين داست أقدامهم كوكب الأرض. كان بسيطا حتى في ملابسه. دائما ما يرتدى  ملابس مصنوعة من أقلّ أنواع القطن جودة وتحتوي علي نسبة كبيرة من البوليستر. عندما قتل جون في حادثة سير بسبب سائق سكير وتناثرت اشلاؤه  علي الرصيف، لم يتقبّل صديقه موته بسهولة  وعاش في ألم.

أحبّ الكاتب صديقه جامع القمامة حبّا مقدّسا لأنّه أحبّه أوّلا. بعد مرور شهر على مقتله، كتب قصة قصيرة يروي فيها أنّه يريد الانتقام من ذلك السّائق أمام الجميع وقال في قصتة: “لا غفران لذلك السكير الحقير الذي قتل صديقي العجوز الذى لم يحلم سوى أن يعيش بسيطا وأن يُقسط في حديثه.” بعد أسبوع، كتب قصّة أخرى -عن صديقه أيضا- تحمل عنوان “يصبح الإنسان مسكينا جدا عندما يموت في حادثة.” وأخرى بعنوان “يصبح الإنسان قويّا جدا عندما يموت في حادثة.” الأمر الذي جعل جمهورا كبيرا من القراء يستاءون  ويهاجمونه.  فقال أحدهم مازحا: “المجنون بحاجة إلى زوجة تجعلة ينسى صديقه. فالنساء دائما ما يجعلن الرجال يتأخرون على سهرتهم في المقهى صحبة أصدقاءهم. وإحدى القارئات قالت: “أصبح صديقه مادة دسمة له  عندما مات. لقد أصبح كاتب القصص مفلسا.”

في تلك الليلة  قام بإشعال شمعة ووضعها بجوار أحد بوسترات قصصه وأخذ يرقص رقصا غريبا وقطته فوق كتفه. أخذ يصيح: “أنا عجوز مهم! في هذه المدينة لا يوجد بائع جرائد لا يعرفني. أنا ملك القصص الحزينة. كثيرون أصبحوا يملّون من قصصي وكثيرون مازالوا يعشقونني. ولو كرهني واحتقرنى كوكب الأرض، فجون لم يحتقرني ولم يكرهنى أبدا. توقّف عن الرّقص وأمسك قطّته ووضعها على الأريكة، ثمّ قال بصوت خافت: “أنا أواسي نفسي بنفسي.” أطفأ الهواء الذي خلّفته رقصته الشمعة. أضاء المصباح الكهربائيّ وذهب إلى الثلاجة وأخرج شريحة كبيرة من اللّحم المجمّد وقال لقطته: “سأعدّ لنا عشاء شهيا مع مشروب الفواكه الممزوج بالنبيذ.” ذهب إلى المطبخ وظلّ يردّد: “أنا أواسي نفسي بنفسي.” وقطّته تنظر إليه وتتابعه بعينيها حتى اختفى عنها تماما، فتوقفت برأسها. وراحت تحتضن وسادة الأريكة وهي  تشعر بالسعادة. من الجميل أن تنتهي ليلة مجنونة مضطربة بوجبة شهية.

قطة مثل هذه تعيش مع هذا الكاتب وأفكاره وجنونه وعذاباته قد تتمنى أن تتكلّم لتقول له: “رغم كلّ شيء، أنا سعيدة بالمكوث معك. في الماضي، كنت قطة شارع أحصل على الركلات أكثر من بقايا الأكل. وأطفال اليوم ليسوا أطفالا. إنّهم شياطين يستمتعون عندما يكبلونني بالحبال ويقومون بسحلي حتى نصل إلى مكان تسيطر عليه الشمس. ثمّ يوجهّون عدساتهم المكبّرة نحو جسدي. يتمركز ضوء الشمس ويحرقني ممّا يجعلني أحبس أنفاسي من الألم ومن الوجود فى ذلك العالم المريض. أنت وجدتني في ليلة من أتعس أيّامي، عندما اهتاج على جسدي المحترق ذكور القطط المتوحشون وقاموا باغتصابي عدة مرات. كانوا يقفزون فوقي بمخالبهم بلا رحمة، مما تسبّب في تساقط لحمي بكل سهولة بسبب حروق العدسات. كان من الممكن أن أتعرض في تلك الليلة للموت. شعرت بألم في المعدة  وضيق في التنفس وتورّم في كلّ جسدي وزهد في كلّ شيء لدرجة أنّني لم أعد قادرة على تخيل يوم جميل وأنا ألعب بخيوط الحياكة كباقي القطط. إنّ الذي يجمع قطط الشوارع وقطط الارستقراطيين هو اللعب بالخيوط.  

حتّى طيور السماء هبطت تنقر  جسدي كي تطعم صغارها. لقد باغتتني الحياة فى ذلك اليوم بجميع شرورها. وأنت أيّها الرّجل الطّيب وجدتني وأخذتني إلى بيتك كما يفعل المسيح دائما.  وقمت باستدعاء الطبيب، ذلك الطبيب الذي ركلني يوما ما هو وزوجته الحقيرة، تلك المرأة كالحة الوجه فاقدة الأنوثة، وأنا أنقّب في سلّة مهملاتهم أمام منزلهم عن طعام لسد الشيء الحقير المسمى بالجوع. أنت جعلته يعالجني ويبتسم في وجهي. داعبني  بصوت يكسوه الهدوء مثلما  يفعل مع زوجته عندما يريد جرها إلى الفراش، وبعد وجبة من الجنس المزيف يهديها قطعة من الذهب. أنت تعلم كم هو مقدّس أن تجعل أحد الحقراء  يبتسم فى وجه كائن أرضيّ تجرّع منهم الذلّ ذات يوم و تذوق من الألم الكثير كما يتذوق الموت من البشر. أنت أيّها الحقير جعلتني مشهورة وأصبحت حديث المدينة. قطة مثلي تدرك قيمة جنون منازل المختلين. الحيوانات لا تستطيع القراءة لكنها تشعر. فتلقي بذراعيها حول عنقك وتطلب لك السلامة. وتزيح عنك صناديق القمامة عندما تتّحد شاشات الميديا عنك. وتلعق الدماء التى تجمدت على وجهك عندما يجرحك حقير ما بسلاحه الأبيض. وتنام سعيدة على راحه يديك. أنت أيّها الحقير من أجمل ما رأيت!

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

رومان صبري

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..