أدب وثقافة شخصيات

لماذا أحب “إيتالو كالفينو”؟

الكاتب: دعاء فتوح

منذ حوالي عشرة أعوام، أهداني محرّر الصفحة الثقافية بأوّل جريدة عملت بها كتاب “ست وصايا للألفية القادمة“. كان ذلك بعد أن قرأ لي شعرا ووجد أنّني لا أشبه نفسي، فأنا أتحدّث عن القرية. لم يسألني أبدا عن علاقة فتاة قاهرية بالقرية -أزمة قاتلة عند المثقف العربي أنّه يرى خبرته وتجربته فقط. القرية كانت رحلتي الدائمة في طفولتي لبيت جدّتي رحمها الله. صورة مطبوعة في قلبي مهما طاردتني القوالب الإسمنتية في العاصمة الغرّاء.

المهم، تسلّل إيتالو كالفينو إلى قلبي بوصية “الخفة”(1) . يا لروعة الخفة، الهواء المنساب في كون رحب! كقارئ طيّب أحببته، أحببت أن أرى انعكاس رأس ميدوسا حتى لا أتجمّد في مكاني وسط عالم يضجّ بالثّقل، ويمدحه. عالم مثلي -حتى لا أظلمه- لا ينتبه لما حوله بصدق.

نحن نتاج تربية ثقافة عرفناها، لها قواعد غريبة منها:

  • من نقرأ له كتابا جيّدا هو كاتب عملاق. حتى لو كتب بعد ذلك “كلام فاضي” ما زال كاتبا جيدا، فالانطباعات الأولى تدوم لأننا لا نقرأ.
  • نتناقل المعلومات على المقاهي أو صفحات التواصل الاجتماعي الآن لأننا توابع ونحبّ قبول المجتمع لنا.
  • ما وصلنا من الآباء أكثر أمانا. فنحن تربّينا على مقولة عظيمة “اسأل مجرّب ولا تسألش طبيب”. نعم التجريب جريمة في منظومة تحبّ التعود، و إيتالو كالفينو يصفعك بالتجريب.

هل قرأت لو أن مسافرا في ليلة شتاء؟ أشعر أنني في حلم،! أنا القارئ الذي يتشارك مع الكاتب خبرة الكتابة وأنواع القراء، سحر التحول من شخص لآخر من حكاية لأخرى من عالم ضبابي لعالم أكثر ضبابية ومع هذا أستمتع. الناقد الذي قابلته مرة في إحدى النّدوات ينتقد كاتبا لأنّه يكتب: “شعر عامي، فصحى، قصة، رواية، مسرح، سيناريو..” هو يجرّب نفسه في كلّ شيء وأيّ شيء. والناقد نفسه إذا عرف مثلا أن هنريك إبسن كاتب المسرح الشهير بدأ شاعرا وكان مخرجا مسرحيا، بالتأكيد سيمدح تدفّق موهبة هنريك إبسن إلّا أنّه سيعتبر تجريب أبناء جيله تشتّتا وبابا من أبواب “الفذلكة”.

لهذا أحبّ إيتالو كالفينو!

أحبّني كقارئ متفاعل، يفكّك النص ويقصّه على مقاس ذائقة خاصة، علّمتني إياها رسائل إلهية من لطيف اللطف. الرسالة الأولى بعد صفعة الثّقل الذي حمله آرثر رامبو فوق ظهره، فتحوّل إلى بائس لخّصته التجربة القصيرة في الكتابة إلى ديوان وحيد في جحيم ذاته. رامبو الذي مدحته إحدى الصديقات العزيزات ونحن في الجامعة بقولها:

“هو في زي رامبو؟ كتب ديوان واحد ولفّف وراه النّقاد وسابلهم الشّعر وتاجر في العبيد”.

تلك المقولة التي صوّرت لعقلي المقلد الجاهل وقتها، أنّ رامبو هذا شخص بارع ومغامر قوي واجه الحياة وعرف لبّها. وكنت في غنى -لوقت قريب- عن مراجعة تلك الفكرة العبقرية، التي ذابت بعد قراءتي الشخصية لسيرة رامبو الفاجعة، ولفصله الوحيد في الجحيم.. جحيم أن يسحقك العالم بثقله، بقضايا الوجود، والمساحة الشاسعة بين ما ورثته عن الله والدين والحياة، وما خبرته في ذاتك من شطط، وغرابة.

لهذا أحبّ من أحبّ “الخفّة” التي لم أعرفها. السّاحرة التي جمّدت ميدوسا بنفس سلاحها، أرتها وجهها بغتة في مرآة. أحبّ حكايته الشّعبيّة! أنا أعشق “الحواديت” والأساطير. أعشق الريشة التي خرجت من ظهر طاووس كانت تملكه شهرازاد.

أحبّ خفّة الخيال وقدرته على رؤية المستقبل. أحبّ مدينة جديدة أبنيها بذاتي، أكوّن فيها ذائقتي بعيدا عن مدارس نقدٍ أكلَ الزّمن عليها وشرب، عن معرفة مستعارة من وجهة نظر شخص قد يكون هو الآخر مستعيرا مثلك للفكرة من هنا وهناك.

أحيانا تقلّل المرآة من قيمة الشّيء، أحيانا تنكرها. ليس كل ما يبدو قيما على المرآة يحتفظ بقيمته حين تعكسه المرآة. 

أحبّ أن يحمل كل منّا داخله مرآة خاصة، فلكلّ منا ميدوسا، وهي دائما بالجوار، والتلقي له أصول فردية، لا يمكن اختزالها في مدرسة أو كتاب أو مصنع شيكولا يحرص على ثبات منتج مستهلك، من حيث الشكل والحجم والمذاق.

*  (1) الخفة (Lightness): واحدة من خمس محاضرات تضمّنها كتاب ست وصايا للألفية القادمة الذي صدر بعد وفاة إيتالو كالفينو -سنة 1988- وهو عبارة عن خمس محاضرات لا ست محاضرات كتبها كالفينو قبيل موته لإلقائها في جامعات أميركية. تُعتبر “الخفّة” أجمل هذه المحاضرات، وقد تناولت أشعار ليوباردي، الشاعر الإيطالي الشهير. وفيها يتحدث كالفينو عن الشاعر كأنه يتحدث عن كتابته.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

دعاء فتوح

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..