مملكة العيون العسلية -1- فم الأسد: ذكر، أنثى، إنسان؟

كان ياما كان في سالف العصر والأوان، في عوالم بعيدة لا يعرف أصلها أنس ولا جان، مملكة عظيمة مشيّدة على أربعة أرجل عملاقة متجاورة محفورة في قلب بحر أسطوري اسمه “بحر العيون العسلية”. لم تكترث المملكة التي لم يعرف أهلها كيف تمّ تشييدها من مادة صخرية معلّقة فوق بحر يحيط بها من كل الجهات، بالمعرفة أبدا لأنّ أهلها الطّيّبين لا يحلمون ولا يَسألون كما أنّهم لا يُسألون. ولهذا كان أبناء المدينة يولدون بفطرة نقية، لا يملكون أيّة أعضاء تناسلية لتحديد هويّتهم الجنسيّة. إنّها مملكة العيون العسليّة.

جرت العادة أن يكتمل قمر مملكتهم لمرّة واحدة، على رأس كلّ عام مما يعدّون. فيطفو لحظة اكتماله -على سطح بحرهم- أسد نحاسي عملاق مسكنه في الأعماق ليحرس المملكة من الأعداء، ويتأكّد أنّها لا تزال في الخفاء. يأخذ من خيرة فتيانهم، فتى وسيمًا كقربان لولائهم العظيم، ثم يختفى مرّة أخرى في الماء. ولأنّ التضحية والإيثار من شيم الأخيار، كان أهالي القرية يتنافسون على تدليل فتيانهم وتربيتهم كأفضل ما يكون، ولكن كيف يتم اختيار الفتى المنشود؟ وكيف ينقسم أهل المدينة في نهاية الحال، إلى نساء ورجال؟

هنا وجب تدخّل الأقدار بفضل ربّ الأخيار والأشرار. فكلّ طفل يتمّ تسعة أعوام بالتّمام والكمال، يدخل بوّابة لعبة قديمة تعرف بـ “أحلام المتاهة العظيمة”. ثمّ يخرج منها، ولديه عضو جنسيّ يحدّد أمره ومصيره الكلّي، أمّا الفائز الذي سيُلقى في فم الأسد فهو الخارج من متاهته بنجمة منيرة فوق جبهته كعلامة انتصار عظيمة.

الأمر في النهاية كان في أيدي الصغار دون الكبار، ولكنّ الكبار لا يدركون لأنهم يميّزون الأشياء بمجرّد النظر، وشكل جسد الفتيات يتميز بجمال تضاريسه في الحال. ولأنّه لم يحدث ولو لمرّة واحدة أنّ جسد طفل مميّز بالعين المجرّدة قد ارتسمت على جبهته النجمة والعلامة، فقد اعتقد الكبار وورّثوا الاعتقاد للصّغار أنّ: الأمر هبة وتفضّل من صاحب الأمر والتّدبير لمن يعرفون أنّهم في نهاية الأمر فتيان.

تلك كانت حقيقة لمن يرون الأمور بتلك الطريقة! ولأنّ للحقيقة وجوها تختلف من حيث زاوية النظر، فهناك رؤية مخالفة يراها أصحاب النّجوم المنيرة الذين انتقلوا إلى أرض مستوية بعيدة، سماؤها بحر العيون العسلية. هم يعرفون أن سكّان مملكتهم القديمة موتى أحياء، لأنّهم يبطنون غير ما يظهرون. فالاختبار كان بسيطا وحلما فريدا، يعرفه الجميع دون إفصاح.

عند إتمام كلّ أبناء المملكة أعوامهم التسعة تبدأ الأحلام. فيأتي زائر في المنام، مكلّف من ربّ الأنام، وفي يده ورقة صغيرة مطوية كتب فيها ثلاثة اختيارات أزلية (ذكر/ أنثى/ إنسان). وكان بسبب تعاليم الكبار أغلب الصغار ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما:

من يخاف من فم الأسد يطلب أن يكون أنثى. وهؤلاء يصبحون رجال  المدينة الذين لا يؤكلون. من يبحث عن المجد والشّهرة يختار الذكورة. هؤلاء يتمتّعون بالرجولة والفحولة وهنّ نسوة المدينة التّابعات الطّيعات المطيعات. أمّا أصحاب النجوم المنيرة، هؤلاء هم أصحاب الاختيار الغريب: إنسان. ثالث عجيب لا يعرفه أهل المدينة المحجوبون عن الحياة لأنهم ملعونون بالكذب والرياء. الأسد فعلا حارس لكنّه حارس عالم الأحياء الأرضيين الذين لا يعرفون قيد القوالب المسبقة، ويختارون فم الأسد بفطرتهم السليمة.  هؤلاء يملكون أفكارا عظيمة، ولهذا تحديدا هم أصحاب النجوم المنيرة.

للحكاية دائما بقية، ما دمنا في مملكة العيون العسلية!

-يتبع-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

سالمة العسلية

تعليق

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..