سينما مراجعات

الطريق La Strada لفيدريكو فيلليني.. عندما يصاب الإنسان بالفقر -1-

الكاتب: رومان صبري
  • تأليف: فيدريكو فيلليني وتوليو بينيلي
  • موسيقي تصويريّة: نينو روتا
  • تصوير: أوتليو مارتيني وكارلو كارليني
  • إخراج: فيدريكو فيلليني

فيلليني ، الرّجل الذي طرأ على الموجة الدرامية الواقعية بأسلوب اختصّ به لنفسه والذي اختلف حوله أهمّ روّاد الواقعية الجديدة في فرنسا وروسيا والسويد وأيضا من أبناء بلده إيطاليا. في هذا الفيلم الايطالي الجميل والمؤلم يستخدم فيلليني مهاراته الإخراجية والإبداعية بالتركيز على مرض لعين يسرق الحياة من وجوه أبطاله، مرض لا نجد المصاب به محمولا فوق إحدى الناقلات ذات الأربع عجلات والأطباء يدفعونها صارخين: “إنه بحاجة عملية جراحية فورا!”، فالمرض الذي ظهر على وجوه أبطال الفيلم هو الفقر.

شخصيّات الفيلم

ثلاثة مصابون بالفقر، وهو ما يتطلب منهم العمل لتوفير ما يحتاجونه من طعام وشراب ومأوى. قصد فيليني وتوليو إبراز الفقر في الفيلم كنقطة جامعة. فهو يربط الشخصيات ويجعلها تتقابل لأنّه من الطبيعي أن يتقابل الفقراء وليس في الأمر أي صدفة، تلتقي الشّخصيات في الفقر وإن اختلفت كل شخصية عن الأخرى وفلسفت واقعها واتخذت أسلوبا يرضيها لتستكمل به حياتها.

الفيلم مليء بالرمزيات البسيطة التي يفهمها المشاهد العادي بسهولة. فنحن هنا إزاء سينما مختلفة وبسيطة عن سينما العظماء الذين أحبهم مثل تاركوفسكي وبرجمان وغودار وانطونيوني وكورساوا وغيرهم، أو هي بمعنى أدقّ السينما الفيللينية البسيطة والعبقرية في آن واحد.

زامبانو

يقوم بدوره الممثّل المكسيكي العظيم أنتوني كوين، يبدو جليا عليه أنه قد ولد فقيرا وأن الفقر قد سقاه الكثير حتى أصبح رجلا يعتاش من استعراضات القوة في الشارع. يلفّ سلسلة حديدية حول صدره ثم يقوم بنفخ صدره العريض القوي حتى تستسلم الحلقة الدائرية المعدنية التي تمسك طرفي السلسلة لقوته فتقع السلسلة على الأرض مهزومة غير مبالية كعادة كل جماد. يصفق له جمهور الشارع من الكادحين مانحا إياه ثمن ما شاهده من قوة. يقوم عمل زامبانو على العنف. وقد قصد فيلليني وتوليو تقديم شخصية الرجل بسهولة من خلال عمله المرتبط بفكه للسلسلة الحديدية. كثرة ممارسة القوة على الضعفاء وعلى أنثى ستقابله تجعل الرجل ضعيف الروح.

يمتلك زامبانو القدرة الجسدية لتحطيم كل شيء لأنه يرى في ذلك الحل لكل شيء. زامبانو هو الوجه الحقيقي للواقع القبيح القذر القاسي، يفضل الابتعاد عن أي شيء قد يتسبب في إضعافها مثل الحب وفعل الخير واختيار زوجة. يظهر عليه أنّه يحاول جاهدا الابتعاد عن كل ذلك، أنّه يريد العمل وممارسة الجنس والأكل والشراب والاعتداء على الآخرين والسرقة والتمسك بوقاحته بكل رضا. لا يعرف تأنيب الضمير فقد عمل على قتل ضميره وظنّ أنه قد نجح في ذلك. زامبانو شخصية بعيدة كلّ البعد عن أي قانون أخلاقي يحكمها، وحتى إن احتكمنا للنسبية الثقافية التي تعني أنّ ما هو صالح في ثقافة شعب ما غير صالح في ثقافة شعب آخر، لن نستطيع إدراج أفعال زامبانو باعتبارها تعبيرة عن ثقافة شعب أو قبيلة ما.

تموت مساعدة زامبانو التي كانت تدّق له على الطبلة أثناء استعراضه فيذهب إلى والدة جلسومينا الفقيرة ويعرض عليها بعض النقود ووجبة من الطعام لتسدّ بها جوعها وجوع أطفاله، كي يحصل على ابنتها. يقنعها بكلّ سهولة بأنّ عمل جلسومينا معه سيجلب لها ولأبنائها الخير والأكل الوفير. توافق الأم بسرعة مرغمة باعتبار أنّ الأوان آن لتعمل ابنتها وتقوم بواجبها تجاه أسرتها الفقيرة فهي لم تعد صغيرة .

عندما يسكن الفقر الأجساد يتّخذ الإنسان أيّ مبرر يقابله ليهاجم به أخلاقه الإنسانية.

هذا ما فعلته الأم التي سكنها الألم لكنها تذهب لابنتها جلسومينا حاملة مبررها معها وابتسامة ربما قد تمنح ابنتها الأمل. تجدها في مكانها المفضل أمام البحر الذي لم يقدّر خوفها وسذاجتها وضعفها تلعب مع الأطفال الذين أحبتهم وتساوت براءتها معهم. تتمسك جلسومينا  بأشياء لا تتمسك بها، توافق على العرض الذي قدّمه زامبانو لأمها فيمتزج بكاؤها مع ضحكها الحزين ويبكي عليها أطفال المنطقة في مشهد مليء بالبؤس الشديد كعادة مشاهد فيلليني. وكأنها ترى كلّ ما يحدث حولها طبيعيا لأنها فقيرة ويجب أن تستجيب لكلام أمّها وتعمل مع زامبانو لعلّها تتعلّم حرفة تساعد في تحسين وضعها ووضع أسرتها حيث أن الأنثى الفقيرة يجب أن تعمل ومن الممكن أن يحبّها الرجل ويتزوجها. يخطف زامبانو الفتاة من عالمها البريء البسيط إلى عالمه العنيف والمخيف غير المستقر لتدق على الطبلة.

جلسومينا

كما يتضح، هي فتاة “مصابة بالفقر” مثل زامبانو لكنه يختلف عنها كونه يمتهن مهنة حرة تجعله بالنسبة لجلسومينا رجلا أقلّ منها فقرا وله السمع والطاعة. وتختلف جلسومينا عنه كونها تتحلى بالبراءة والطيبة. تقوم بدور جلسومينا الممثلة الايطالية جولييتا ماسينا التي تزوجها فيلليني فيما بعد وصنعا معا أعظم الأفلام حتى فرّقهما الموت.

خطفتني جلسومينا من أوّل مشهد لها وهي تقف بحزنها وضعفها وعدم قدرتها على التحكم في ظروفها البائسة أمام البحر. قلت في نفسي: “ليس هناك شر أعظم من أن تصاب أنثى طيبة مثل جلسومينا بالفقر الذي جمعها بإنسان عنيف مثل زامبانو.” كانت جلسومينا الأنثى المضطربة فاقدة الأنوثة، هكذا رآها المجتمع، وهذا ما يثبت مرض المجتمع بالغباء الذي اختصر الأنثى في الشكل الذي يرضيه. جلسومينا، كانت كما يجب أن تكون المرأ ة، ممتلئة بالأنوثة والتي اختصرتها وعبّرت عنها عبر طيبتها وحنانها وبعثرتها للأمل حول من تحبّهم، فجوهر الأنوثة أن تكون المرأة حنونة تستطيع أن تزيل عن الرجل جلده السميك وقوّته الوهمية.

الإنسان الذي يولد في فقر دائما ما يتحدث الفقر بدلا عنه.

تشعر جلسومينا بالخجل والسذاجة والضعف عندما تتحدّث إلى أحد. حتى في حلمها، خجولة، وكأن الفقر حاجز يقف بينها وبين أحلامها لكنه لا يستطيع منعها من أن تحلم. ليس هناك نوع من الفقر يجعل الإنسان يحب ولا يصنع الشر مع من يحبّهم. الفقر واحد لكن البشر من يختلفون عن بعضهم البعض. هذا ما سينعكس من خلال شخصية جلسومينا التي سترفض سرقة الدير رغم إهانة وتخويف زامبانو لها. الفقر تجربة من تجارب الله للبشر، والاختلاف الأكبر بين جلسومينا وزامبانو في طبيعة الروح. جلسومينا هي الوجه الحقيقي للبراءة والأحلام البسيطة التي تريد تجميل الواقع المتمثل في زامبانو حتى تستسلم في النهاية وتتخلى عن كل شيء ما عدى أخلاقها وطيبتها. فالفقر والحب يعيشان بكل سلام داخل أنثى مثل جلسومينا.

-يتبع-

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

رومان صبري

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..