سينما مراجعات

عن الفيلم المثير للجدل للبناني زياد دويري “The Attack الصدمة”

الكاتب: خالد جمعه

سأحاول في البداية أن ألخص الفيلم الذي أخرجه اللبناني زياد دويري عام 2012، وقضى 11 شهرا في تل أبيب مستعينا بطاقم إسرائيلي تقني وممثلين إسرائيليين كذلك، وحمل الفيلم عنوان الصدمة، The attack وليس The shock. 

ملخص الأحداث

يبدأ الفيلم بحفل إعلان فوز الطبيب الفلسطيني أمين جعفري الذي يعمل في إحدى مستشفيات تل أبيب بجائزة لم يفز بها أي عربي على امتداد 40 عاما، هي عمر الجائزة. وتأتيه مكالمة قبل أن يصعد ليستلم الجائزة، فيرد بأنه لا يمكنه الحديث الآن، ويصعد بعد مناداة اسمه، ويلقي خطابا، يقول في نهايته: “كل يهودي فيه جزء عربي، ولا يستطيع عربي أن ينكر أن فيه شيء يهودي” ويضيف أنه رغم كل الغضب الذي كان يشعر به مما يحدث، إلا أنه حين يحصل على منحة في معهد طبي، ويرى من كان يعتبره عدوا نائما على طاولة العمليات، فإنه يتساءل: “أليس هو الوقت الملائم لإعادة النظر فيما نؤمن به؟”.

أثناء مشهد جلوسه في المستشفى مع صديقين يهوديين إسرائيليين، يحدث انفجار، ويقوم الجميع إلى غرف العمليات. هناك قتلى أطفال لأن العملية تمت في مطعم كان فيه احتفال بعيد ميلاد طفل ما. يرفض أحد الجرحى اليهود أن يعالجه بصفته طبيبا عربيا. ويسقط في الانفجار 17 قتيلا، ويصاب 8 بإعاقات دائمة. يأتي إليه ابن أخته عادل إلى البيت في تل أبيب، ويأخذ حقيبة كان قد نسيها عندما نام في بيت أمين سابقا. ويتضح من المشهد أن عادل اعتاد على النوم في بيت أمين كلما حضر إلى تل أبيب.

يتلقى أمين اتصالا من المستشفى للحضور حالا. لم تكن هناك حالة طارئة، بل طلبوا منه أن يتعرّف على جثة مشوهة من بقايا الحادث، ليكتشف أن الجثة لزوجته سهام المسيحية، وأن هناك اشتباها في أنها من قامت بعملية التفجير في المطعم. في مشهد تحقيق طويل، يحاول المحقق أن يأتي له بالإثباتات التي تدل على أن زوجته فجرت نفسها في المطعم، وأمين يحاول نفي ذلك عن زوجته. فيقول له المحقق: “زوجتك لم تقم بالقتل فقط، بل هدمت الثقة التي وضعتها إسرائيل في مواطنيها العرب. ويخبره بأن زوجته لم تذهب إلى الناصرة لزيارة جدها، بل نزلت في الطريق وركبت سيارة مرسيدس مع شخص آخر.

تقول له صديقته الطبيبة اليهودية: “هناك اعتقاد أن من يقومون بتفجير أنفسهم هم نوع من المرضى النفسيين، لكن الدراسات أثبتت أن ذلك ليس ضروريا” وتعطي مثالا على وفاء إدريس التي فجرت نفسها عام 2002، قائلة إنها لم تكن مريضة نفسية، لكنها فجرت نفسها لأن زوجها طلقها لأنها عاقر. ولذا لم يكن أمامها إلا أن تصبح شهيدة. ثم تخبره بأن السلطات تريد أن تسقط عنه الجنسية بسبب ما فعلته زوجته.

يعود إلى بيته فيجده محطما، وشعارات عنصرية مكتوبة ضده على جدران الشارع. يكتشف رسالة من زوجته مرسلة من نابلس تقول فيها: “أنت تريد أطفالا، وأنا أريدهم باستحقاق. الطفل ليس بأمان إن لم يكن له وطن. لا تكرهني!” ويكتشف من خلال الرسالة أن زوجته هي من قام بالعملية فعلا. يخبر صديقته الطبيبة أنه سيذهب إلى نابلس ليرى الناس هناك. فترد عليه: “إنك تتكلم عن إرهابيين، هؤلاء ليسوا من الناس الخيرين في العالم”.

في طريقه إلى نابلس، يضع سائق سيارة الأجرة كاسيت للشيخ مروان الذي يتحدث عن حق المسلمين في القدس، وعدم وجود حق لليهود فيها. يزور أخته، أم عادل، ويخبرها أنه أتى ليعرف ماذا حدث لزوجته. وتأتي أخت عادل وتأخذه إلى أبيها الذي يفترض أنه رأى سهام قبل العملية. تخبره في الطريق أنها ستنهي دراستها وتترك البلد، “مش مهم لوين انشالله على جهنم الحمرا”. يذهب إلى المسجد ليقابل الشيخ مروان، الذي قال له أبو عادل أن سهام ذهبت لتأخذ بركته قبل العملية، لكن الشيخ يرفض مقابلته بحجة المرض. وحين يصر على مقابلته، يقوم ثلاثة من حراس الشيخ بطرده بالقوة من المسجد. ويقولون له: “جيتك هون رح تحرق البلد بالي فيها، ولو سمحت بتوخد أول سيارة وبترجع على تل أبيب”.

يستعيد حوارا مع زوجته حين رفضت وجودها معه في حفل استلام الجائزة، ورفضها تبرير غيابها عن الحفل، لكنه يظل مصرا على مقابلة الشيخ مروان، إلى أن يصادفه ليلا مع حراسه. فيقول له الشيخ: “استشهاد مرتك مش رح يرفع من قيمتك عنا، ابن الحرام مش اللي بيعرفش أبوه، ابن الحرام اللي بيعرفش أصله، اسحب حالك واطلع من نابلس”. فيرد عليه أمين: “انت بتفكر حالك نبي؟” فيقوم مرافقو الشيخ بإبعاده بالقوة. يخبره أبو عادل بأن الشاباك يراقب البيت، و”ما بدنا مشاكل لا من هون ولا من هناك”، فيخرج إلى الشارع ويبدأ بتمزيق بوسترات سهام عن الجدران بعصبية.

يعود إلى ورشة والد عادل، فيجد سيارة المرسيدس مغطاة بالقماش. ويكتشف أن عادل “متورط” في الموضوع من الأصل. يأتيه اتصال مبهم، وتأتي سيارة لأخذه وتنزله عند كنيسة، ويقابل راعي الكنيسة. ويسأله: “كيف خلقتم وحشا في داخل رأسها؟” يرد عليه راعي الكنيسة “الأب”: “عندما يشفى جرحك، سترى الأمور بشكل مختلف”، فيقول أمين: “أريد أن أعرف الحقيقة”، فيرد الأب:

“أي حقيقة؟ حقيقة زوجتك التي عرفت ما يجب عليها فعله، أم حقيقة العربي المبسوط على حالو إنو معو باسبور إسرائيلي؟ العربي اللي انسلخ عن جلدو وبينعزم على حفلات وبتنزت عليه هدايا وجوائز من ناس بدهم يورجو العالم إنهم متسامحين؟ أنت بأي كوكب عايش يا ابني؟ بلادنا منتهك عرضها شمال ويمين، ومدننا عم يدفنوها تحت الجرافات والدبابات، وولادنا نسيو شو يعني كلمة مدرسة، وانت مجرد انك قاعد في تل أبيب مبسوط بتفكر إنك بتقدر تيجي هون وتعطينا محاضرات إيش صح وإيش خطأ؟ انت عندك حياتك وعنا حياتنا، إنت عندك وجهة نظرك واحنا عنا وجهة نظرنا، وواضح انو مش رح نتفق على شي، ولاخر مرة بشرحلك، انو فش اشي الك هون، إحنا مش إسلاميين، ولا مسيحيين متعصبين، إحنا مجرد شعب منكوب بيحاول يرجع كرامته، لا أكثر ولا أقل”.

“ابن الحرام مش اللي بيعرفش أبوه، ابن الحرام اللي بيعرفش أصله..”

ثم يلتقي أمين بعادل الذي يخبره أنه كان يذهب إلى تل أبيب ليجمع مالا من أجل الخلية، وأن سهام رأت حقيبته ذات يوم، وفيها وثائق ومسدس، وأنها أتت له بعدها بالمال من حيفا ومن الناصرة، وأصبحت أهم رابط لهم في تل أبيب. “في اليوم اللي راحت فيه على جنين وشافت المجزرة اللي بتنوصفش، هذا هو الإشي اللي خلاها توصل لهون” ويعتذر له عما حدث ويسلمه شريط فيديو للعملية.

يعود أمين إلى تل أبيب، وتسأله صديقته الطبيبة إن كان عرف شيئا جديدا في زيارته إلى نابلس، لأن لديه واجبا أخلاقيا تجاه ضحايا الحادث، فيرد عليها بأن هذا ليس عملي، فأنا لا أريد أن أتسبب في إجراءات قمعية جديدة. تقول له: “لقد عشت حياة ممتازة بيننا”، فيرد: “وصلت إلى ما وصلت إليه بجهدي وعرقي”، فتقول: “لأننا جعلنا ذلك ممكنا، وفي المرة القادمة حين يفجر شخص نفسه، اسأل نفسك وأنت أمام طاولة العمليات: من أريد أن أنقذ؟” يعود إلى بيته ويشاهد شريط الفيديو، وفيه ترفض زوجته أثناء إعدادها لعملية التفجير أن تقرأ رسالة أخيرة، وتتصل به تلك المكالمة التي جاءته أثناء تكريمه. ينتهي الفيلم وهو يقف وصوت سهام في الخلفية: “ليش عم تبكي حبيبي؟” فيرد: “لأنو كل مرة بتروحي، جزء مني بيموت”.

هذا هو ملخص الفيلم الذي أخرجه زياد دويري، والذي استمر لمدة 100 دقيقة.

عن الفيلم

يعزل الفيلم الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948 عن بقية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهو لا يشعر بهم، ولا بمشاكلهم. وهذا يتضح بجلاء في حوار أمين مع الأب في الكنيسة: “إلك وجهة نظرك وإحنا إلنا وجهة نظرنا”، حتى أنه لم يشعر بالتغير الذي طرأ على زوجته منذ اللحظة التي بدأت فيها بالتفكير في العمل مع الخلية في نابلس. ولم يشعر بذلك مع ابن اخته عادل، فهو منعزل تماما داخل حياته الشخصية كجراح ناجح. حواره مع الإسرائيلي الآخر هو حوار اجتماعي يتعلّق في مكان قضاء الإجازة “قيسارية أو قطر”، أو في العناية بأم أحد الأصدقاء الإسرائيليين، مع وجه دولة ديموقراطي يمنح الجائزة لطبيب عربي هي الأولى خلال 40 سنة، دون التعرض لما يتعرض له أبناء الأراضي المحتلة عام 1948 من تفرقة عنصرية متمثّلة في الخدمات والأبنية والشوارع والمشاريع التطويرية والأجور… إلخ، حتّى ذلك التّحقيق الحضاري الذي أجروه مع الطّبيب، يبدو أنّ من كتب حواره لا يعرف ماذا يعني أن تُقاد إلى التحقيق في أحد سجون إسرائيل.

من خلال مواقف الفلسطينيّين في نابلس، حين ذهب الطبيب إلى الزيارة هناك، من الواضح أيضا أنه لا معلومات لدى من كتب السيناريو عن طريقة الحياة في الضفة الغربية، ولا عن اقتحامات الجيش الإسرائيلي للمدن الفلسطينية، وكلّ هذه اللّقطات التي حاولت أن تظهر جنديا ينزل شابا من سيّارته، أو الحديث بجملة عن مجزرة جنين كسبب في لجوء سهام إلى تفجير نفسها، إنما هو تصوير لما يحدث وكأنه رد فعل على عملية إسرائيلية هنا أو هناك، متجاهلا السبب الرئيسي الذي قام من أجله الصراع، وهو الاحتلال الإسرائيلي. الاحتلال الذي يسيطر على مجريات الحياة الفلسطينية بالاعتقال والحواجز على الطرقات والمستوطنات والمصادرة والقتل، فقضية تصوير ما يقوم به الفلسطينيّون كردّ فعل انتقامي وكأنّ الصّراع بين جارين يسرق أحدهما ثمر حقول الآخر، هو تبسيط للصراع، وكأنه صراع داخلي بين طائفتين مثلا، وليس بين شعب هدرت حقوقه منذ عشرات السنوات، وبين محتل أهدر هذه الحقوق.

الواجب الأخلاقي الذي تتحدّث عنه الطبيبة اليهودية تجاه ضحايا التفجير، من أين جاء؟ وكيف نتج؟ وما الفرق بين الواجب الأخلاقي في مثل هذه الحالة، والواجب الأخلاقي تجاه كل هؤلاء الذين يقتلون بالرصاص يوميا، أو الذين يموتون بسبب الحصار في غزة مثلا ولا يستطيعون الخروج للعلاج؟ أو أنّ هذا خارج حسابات الصراع؟ لا أعرف.

اليد العليا التي لا يستطيع الطبيب مقاومتها، تمثّلت في أكثر من موقف في الفيلم، “الثقة التي منحتها دولة إسرائيل لمواطنيها العرب”، و”أنت نجحت لأننا جعلنا ذلك ممكنا”، هذه العنجهية لم يتم الرد عليها في الفيلم ولا حتى بالحوار.

الفكرة هنا لا تتجلّى في الوقوف مع أو ضد العمليات التي تنفّذ بحق مدنيين، فليس هنا جوهر الأمر، ولكن إذا سلّمنا أنّ هذا هو جوهر الأمر. فلننتبه إذن إلى المدنيين بغض النظر عن دينهم وعرقهم، ولننتبه إلى أن أكثر من 90% من ضحايا اعتداءات إسرائيل على غزة وجنين ورام الله وبيت لحم والخليل هم مدنيون، بل ونساء وأطفال كذلك، فكيف يمكن انتقاد جانب والتغاضي عن جانب آخر من المسألة؟ ولا أريد أن يستخلص من هذا أن من حق من يتعرض لهجوم على مدنييه أن يرد بالهجوم على المدنيين، لكنها مقارنة التعاطفات التي تقوم بسببها الدنيا ولا تقعد عندما يكون الضحية إسرائيلي، ولا تقوم الدنيا ولا تقعد حين يكون الضحية فلسطيني، ولم يتجاوز فيلم زياد دويري هذه النقطة.

لا شأن لي بالرواية التي أخذ عنها دويري فيلمه، ولا أعرف إن كان قد حورها أم لا، فهذا لا يعنيني. ما يعنيني هو الفيلم الذي شاهدته، والذي يصور الصراع على غير ما هو عليه في الحقيقة، حتى لو كان هناك بعض الفلسطينيين الذين يتعاطون مع إسرائيل كأمر واقع، ولكن حتى هذا الأمر الواقع يقوم بجرائم لا يمكن حصرها ولا يمكن إخفاؤها. وهي واضحة لكل من يريد أن يرى.

المخرج زياد دويري وأبطال الفيلم في موقع التصوير

لم أكتب هذا بدافع من موقفي من اعتبار زياد دويري قام بعملية تطبيع بزيارته لتل أبيب وإقامته فيها 11 شهرا واستعانته بممثلين وطواقم فنية إسرائيلية. فهذا بالنسبة لي تطبيع لا لبس فيه، ولكن زيادة على ذلك فإن تصوير الصراع على هذه الشاكلة وبهذه الكيفية، هو تسخيف لأبعاد القضية الفلسطينية، تسخيف لقضية هي في جوهرها قضية احتلال استيطاني، قضية احتلال يسيطر على أرض وشعب. وهو لا ينتمي لا إلى هذه الأرض ولا إلى هذا الشعب، لا لغة ولا دينا ولا عادة ولا تقليدا. فماذا تفعل هنا دولة تلعب تصفياتها الرياضية مع أوروبا مثلا؟

حاولت أن أكون موضوعيا، أن لا أكتب بدافع الغضب أو الموقف المسبق، وأعرف أن الغضب والموقف المسبق يفسد عملية التفكير. وهذا الفيلم ـ المشغول بشكل تقني عال بالمناسبةـ يدس سما في دسم، من خلال الكثير من الكلمات والجمل والمواقف التي تبدو للناظر من بعيد، وكأنها طبيعية تماما.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

خالد جمعه

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..