نجيب النّجيب .. أو “أبانا الذي في الأدب”

حين أتحدّث عنه، فإنّي أتحدّث بإجلال واعتزاز وحبّ وإكبار. يجب أن ننحني احتراما وتقديرا عندما نتحدّث عن “الحكّاء الأعظم” ، نجيب محفوظ الذي أعتقد أنّ مثله مثل ماركيز، أضاف إلى نوبل شرفا ولم تضف إليه.

تمتاز روايات نجيب محفوظ بالعمق الشّديد في فهم شخصيّة المجتمع المصري، وتحليل التوجهات السياسية والاجتماعية بشكل شديد البراعة. غير أنّ “أصعب سؤال يمكن أن توجّهه لشاعر أو أديب أن يشرح ما كتبه.”، كما قال نجيب سرور في كتابه “حوار في المسرح”. ولعلّ هذا أكثر ما يفسّر ما قاله المسيري -رحمة الله عليه- عندما اجتمع بنجيب محفوظ واكتشف أنّ آراءه السياسية شديدة السّطحية رغم أنّه شديد العمق في تشريح الشّخصية المصرية. هذة الإشكالية الكبرى تواجه الكثيرين من محبي الأدب، فالاشتغال بالأدب أمر يكاد يكون خياليا. يسبح معه الأديب إلى ما بعد الواقع إلى، مساحات أخرى من “الذكاءات”  لا يستطيع هو نفسه أن يشرحها تفصيلا. وإن شرحها فاعلم أنّ عمله الأدبي سيكون ضعيفا.

الأفكار مثل سيل تُترجم بواطن المعرفة وخلجات النفس وتسجيلات العين لمشاهد ربّما لا يتذكّرها الأديب أو الشّاعر نفسه. الأدب عمليّة عقلية شديدة الذكاء والشاعرية والمثالية لا يدركها إلّا القليلون. ولعلّ هذا أنسب تفسير ستجده إذا قارنت أعمال نجيب محفوظ بمقالات شديدة السطحيه والرّكاكة تصادفها يوميّا. لغة محفوظ ليست باللغة السهلة ولكنّها ليست بالصّعبة، هو المتمكّن من كلمات اللّغة كأنهّ ساحر. لا يبتذل ولا يحشر العامّية ولا يستخدمها مطلقا، حتّى في أصعب المشاهد ” عامّيّة “.

أمّا عن الشّخصيات والخطّ الدّرامي فهي أكثر ما يميّز محفوظ. إنّ لنجيب قدرة عجيبة على خلق خطّ دراميّ واضح لكلّ شخصية من شخصيات الرواية وخط درامي واضح يجمع كل شخصيات الرّوايات. وله قدرة أكثر حنكة في خلق التفاعل بين كلّ الشخصيات بما لا يُخلّ بعصب الرّواية الأساسي وقصة كلّ شخصية على حدة. ولعلّ هذا ظهر جليّا في عمله الأدبي العظيم: الثلاثية ” السكرية وبين القصرين وقصر الشوق”. وتناوله العبقري نجيب في سرور في كتابه ” رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ ” وهو كتاب ينقد الثلاثية نقدا ماركسيا يُعدّ من أجمل ما كُتب في نقد أدب نجيب.

محفوظ كان حائرا بحق، يبحث عن الإجابة بين كومة الأفكار المتناثرة. وهذا يتضح من السياق الزمني، فمثلا رواية “الشّحاذ” كانت رواية شديدة الإيمان والتّسليم المطلق، “المرايا” كانت مليئة بالحيرة والعدميّة، “أولاد حارتنا” مليئة بالجرأة والتهكم، “يوم قتل الزعيم” مزيج من التّمرد علي الواقع والإيمان بالله بعد التعب .. وهذا كان أكثر ما يميّز نجيب. هو الحائر بصدق، هو الذي يتفاعل مع الأوراق بروح وثاّبة وعقل يقظ.

إذا أردت أن تقرأ لنجيب محفوظ، نصيحتي أن تبدأ برواية خفيفة مثل ” يوم قُتل الزعيم ” ثم تنتقل إلى ” الشحاذ “. اعبر على جسر ” ميارمار “، انتبه قليلا وتأنّى مع ” اللّص والكلاب ” ثمّ ” الفجر الكاذب “. وإن شئت فابدأ من الثلاثية وانهل من بحر المتعة وانطلق في البحر النجيبي إلى ما شئت فالانتاج غزير وعظيم. فقط، أظنّ محفوظ ليس متميّزا في القصّة القصيرة وإن كانت “أحلام فترة النقاهة” جميلة.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

أحمد بهاء الدين

واحد علي باب الله , يحاول أن يعبر عن أفكاره وكراكيبه بالكلمات .

تعليق

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..