أدب وثقافة

الجوارب البنفسجية

الجوارب-البنفسجية
الكاتب: نهى سعداوي

جلست على حافة السرير تحتضن عُريها بكفّيها وذراعيها، بل بكلّ ما لديها في محاولة لإخفاء أكثر ما يمكن من ارتباكها. نظرت إلى قدميها في الجوارب البنفسجية باهتة اللّون المرتخية عند الكاحلين. كيف لم تلبس جوارب أخرى أنعم وأكثر أناقة؟ جوارب قطنيّة قديمة وضعت فيها قدميها بعد ارتداء سروال الجينز، لتضعهما في الحذاء الرّياضيّ وتخرج راكضة خشية التّأخير كما اعتادت. تناست عريها وبرودة الغرفة النّسبية وانصبّ تركيزها على أقدامها التي تفسد المشهد. لطالما كرهت أقدامها، أصابعها غير متناسقة وعظم جانبيّ يفسد شكل كلّ حذاء لبسته. وفوق كلّ هذا جوارب قطنيّة بلون بشع. من يتخيّل أن تذهب امرأة بهكذا جوارب لموعد حميم؟ هذا غباء كبير.

حاولت أن تخفي ارتباكها مسترقة النّظر لدخان سيجارته الذي ينفثه خارج الغرفة عبر النّافذة، فهو يعرف أنّها تكره دخان السّجائر ويحترم حقّها في رئتين ورديّتين. لفّ جسده في روب بيتيّ خفيف أرجوانيّ داكن ولفّ حزامه جيّدا بحركة تشي بغضب يداريه. أشعل سيجارته وأشاح بوجهه عنها. تركها تلملم نفسها بعد فشل ذريع مُني به في محاولته إثارة اهتمامها بما يعتمل في داخله. غادر النافذة وجلس على أريكة فبالة السّرير. بينها وبينه طاولة، عليها كتابه الأثير “هكذا تكلّم زاردشت” لأثيره الحبيب “نيتشه”، الذي كانت تكرهه دون سبب أو حجّة. بل وحلفت أن لا تقرأه أبدا رغم كلّ الإغراءات من أصدقائها وحديثهم الذي يتجدّد في كلّ لقاء عن العظيم “نيتشه”. أحيانا لشدّة تعلّقه بالكتاب، تظنّه زردشتيا، رغم أنّه من الأرجح أن يكون لادينيّا.

– لا تجلسي أبدا عارية قبالة رجل وإن اتّفقتما على أنّ إمكانيّة الانسجام بينكما صارت صفرا. هذا لا يحتمل، دعكِ من كلّ الرّجال وقواعد التّعاطي في هكذا حالات.. أنا لا أحتمل أن أراك قريبة بعيدة.

حافظت على مسافة الصّمت. تمتمت معتذرة بصوت لم تسمعه. كانت منشغلة أكثر بقدميها. لفّت يديها حولها أكثر محتضنة جسدها، محتضنة خيبته ومرارتها. كان حلقها يزدحم بالكلمات، لكنّها اختارت الصّمت. كانت تخنق الكلمات فيؤلمها صدرها. شعور بالاختناق اعتراها. ودّت لو أنّها تستجمع شجاعتها لتقول له ما تريد. هذا الكلام الذي يعلق بحلقها منذ اتّفقا على اللقاء وحيثيّاته، منذ استقلّا سيّارة الأجرة وجعلها تصعد في الخلف ليجلس قرب السّائق، منذ فاحت رائحة الكحول من كلماته حين اجاب سؤال السّائق “إلى أين؟”، منذ فاضت القهوة على الغاز في مطبخه الصّغير الذي يفتقد اللمسة الأنثويّة المبهجة.

منذ عرفته وهي تحاول أن تقول له أنّها بحاجة حضن. حضن تريح فيه فقرات ظهرها التي تعبت من وضعيّة الجلوس المؤبّدة في عملها المرهق في ذلك المكتب الموبوء كصاحبه. حضن ترسل فيه خصلات شعرها الغجريّ في سفر لا ينتهي. حضن يعتصرها حين يضيع إدراكها لجسدها فتستعيد حواسّها. حضن تخبّئ فيه رأسها الذي تتقافز فيه الأفكار وتتلاحق بلا توقّف. حضن تهرب إليه طفلة لا تريد أن تكبر، خوفا من تبخّر أحلامها برجل يدرك حاجتها دون أن تضطرّ للبوح. رجل يقدّر الجوارب البنفسجية، حتى.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نهى سعداوي

تونسيّة، متحصلة على الماجستير في اللسانيات الانجليزية. مهتمة بالترجمة ودعم المحتوى العربي. هاوية كتابة. مناصرة للقضية الفلسطينية، لقضايا العرب والمسحوقين أينما كانوا.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..