من الفيلم:
يقول محمد علي الحامي للطاهر الحداد : البلاد هاذي لو كان تنطبق السماء على الوطى تقولوا لاباس.
الحداد و بلقاسم الشابي للدوعاجي: انت ما تفهمش في النضال.
الدوعاجي ساخرا: شنوة ياخي النضال ما يكون كان على طريقتكم؟يتحدّث الفيلم عن تونس في ثلاثينات القرن العشرين تحديدا بين عامي 1924 و1935، خاصة عن ثلاث عاشوا في تلك الفترة، وهم الطاهر الحداد، الداعي للحرية وللمساواة بين الرجل والمرأة، وابن عمه محمد علي الحامي، مؤسس أول نقابة تونسية للعمال، وأبو القاسم الشابي، شاعر تونس الثائر.
قدّم الفاضل الجزيري، في هذا الفيلم، أعلام تونس خلال ثلاثينات القرن الماضي : حضرت شخصية “أبو القاسم الشابي”. شاعر بسيرته يحاول أن يتمرّد على نواميس الكتابة في عهده وعلى أسر تقاليد الأسرة. ومعه “علي الدوعاجي” يروي بسخرية ويدفع من معه للانفلات من الحدود. وقد افتتح هذا النصّ السينمائيّ المناضل النقابيّ “محمد علي الحامّي” خطيبا ومؤسّسا لأولى نقابات تونس “جامعة عموم العملة التونسيين”. حضر “الحبيب بورقيبة” في صورته الأولى شابّا يؤسّس لمرحلة سياسية جديدة ويتمرّد على مؤسّسة الحكم. حضر هؤلاء في سيرة الشخصية الرئيسية: “الطاهر الحداد” صاحب كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، هذا الأثر الذي كان لعنة على صاحبه وأوّل نصوص الحداثة للمجتمع التونسيّ،، أوّل تهديد للمؤسّسة الدينية وللمؤسّسة الاجتماعيّة التقليديّة.
الفيلم سيرة فنّية للطاهر الحداد، وحضور بقية الأعلام كان لأنّ كلّ واحد منهم كان يُكمّل خصوصيات مُنعرج الثلاثينات في تونس. “الطّاهر الحدّاد” كان مؤرّخ سيرة “محمّد علي الحامي” من خلال كتابه: العمّال التونسيّون وظهور الحركة النقابية وأحد شركائه في هذا المشروع النقابيّ الذي انتهى بسجن الحامّي ثم نفيه ثمّ موته في جدّة إثر حادث سير، قد يكون قدرا كما قيل، أو مّدبّرا كما قيل أيضا. كان “الطاهر الحدّاد” ومن معه يصارعون المُؤسّسة الدينية ويُصارعون مؤسسة سياسية برأسين: النظام الاستعماريّ الفرنسيّ ممثّلا في المقيم العام، والباي الحاكم التقليديّ للإيالة التونسية.
هذه الشخصيات -كما قدّمها الفاضل الجزيري– لم تُعلن عن نيّة الثورة، ولا يبدو أنّها خطّطت لأيّ من ثوراتها ولكنّها تحمّلت مسؤولياتها داخل سياقات الأحداث من حولها، و تعبيراتها كانت إعلانات قطع مع السّائد من القيم والتقاليد والمؤسسات. وبدا الأمر واضحا حينما أثرى صاحب الفيلم “الحكاية” بأضداد هؤلاء، من داخل المؤسسة الدينية الحاكمة والمؤسسة السياسيّة الحاكمة.
كانت أوّل الصدامات في هذا الفيلم تحت إمرة “محمد علي الحامّي” الزعيم النقابي فقيل إنّه شيوعيّ، وبقطع النظر عن علاقته بالشيوعية فإنّ الأمر ألّب عليه المؤسسة الاستعمارية المناهضة لحركة عُمّالية شعبية، وألّب عليه المُؤسسة الدينية التي أدرجته ببساطة في قائمة الكُفّار. وأعتبرته مُؤسّسة البايات خارجا عن الطّاعة. ثم كان كتاب أبي القاسم الشابي: الخيال الشّعريّ عند العرب الذي اعتُبر تعدّيا على أعلام العربيّة وقدسيّتها، وقد تمّ تقديم مشهد الصّراع سينيمائيّا في مكتبة الخلدونيّة بالعاصمة وجنّدت المؤسّسة التّقليدية “كتيبة” لمجابهته (ومن معه) وكان تكفيرا من نوع آخر!! وقد خَلق المُخرج طقس المواجهة بحدثين وجعل “الطاهر الحدّاد” سندا للحامّي والشّابيّ (وقد كان كذلك). ثم أعلن المعركة الكبرى فكان الحدّاد فارسها الأوّل يسنده الشّابيّ، هذه المرّة، وروح الحامّي وسخرية الدوعاجي.
لم يكن بورقيبة، حسب المشهد السينمائيّ، غير فردٍ من الجمهور تدخّل بحماسة خطيبا. شابّ يعود من فرنسا محاميا، يُعرَّفُ على أنه شقيق محمود بورقيبة، لا أكثر!!. صحيح أنّ المُخرج عاد إلى شخصية بورقيبة في مشاهد أخرى ليرسُم لحظة عزمه المواجهة، ولكنّ الزمن التّاريخيّ لم يمكّن زمن الحكاية السينمائيّ أكثر من ذلك، والفيلم سينتهي بوفاة الحدّاد. وإلى ذلك الحدّ ذهب بورقيبة إلى المُعتقل وهذا إعلان عن بداية رحلته الطويلة مناضلا. وقد أفسد أكثر رحلته حاكما، لكنّ التاريخ حفظ هذا وذاك.
هذا الفيلم ليس وثائقيا على أيّ حال، وهو توثيقيّ بالتأكيد، بمعنى أنه وثّق لفترة تاريخية محدّدة ولكنه لا ينسب إلى الأفلام الوثائقية بمعناها المتعارف عليه في الصناعة السينمائيّة. وقد كان لاستعمال الأرشيف المُصوّر دور كبير في جعل المُشاهد داخل ذلك الفضاء التاريخيّ فعلا بما للمكان والناس “الحقيقيين” والمدينة من روائح اللونين الأبيض والأسود. ولم تكن تلك المشاهد “الأرشيفية” مسقطة . فالمخرج حاول أن يستثمر ما بقي من تلك الفترة وأمكن له، إلى حدّ كبير، أن يجعل المُشاهد في إطار المكان وإطار الزمان الذي كان عليه آخر أجداد التونسيين.
هذا عمل سينمائيّ بأدوات مسرحيّة، فالنص مكتوب بلغة المسرح والشخصيات مسرحيّة والمشاهد “ركحية”. “الحالة المسرحيّة” هي الغالبة على المخرج الفاضل الجزيري، ولا يمكن أن تقرأ نصّه السينمائيّ هذا دون أن تكون على وعي آخر: أنت في مسرح ولست في قاعة سينما. الأصوات القادمة من خلف “الممثلين” كهتافات، والأغاني التراثية تحاول الحلول في الغائب برائحة الخشب المسرحيّ، والعيون كأنها تنظر إلينا حيّة، أو هكذا يبدو أنّ الكاميرا نقلتها إلينا.
سيرة أعلام الثلاثينات قدمت من هنا إلى هنا، فهذه تونس، ولم يتغيّر الصراع في بنيته كثيرا على المستويين الاجتماعيّ والسياسيّ. الغائب ليس أمسا كُله، الزمن تغيّر لكنّ التاريخ لم يتغيّر كثيرا. مازالت قيم التغيير تصارع قيم الشدّ إلى الخلف ومازالت قوى التغيير السياسيّ والثقافيّ تحاول التشكّل حتى يخرج الوطن من أصولية الواحد.
سيناريو: الفاضل الجزيري، عروسية النالوتي.
الميزانية: أكثر من مليوني (2) دينار تونسي.
عدد الممثلين: 211
عدد الممثلين الإضافيين: 500.
إنتاج 2008
اضف تعليق