سياسة و مجتمع

أنا تونسيّة بلا تاريخ ثوريّ ولا سجلّ نضالي لكنّي أومن أنّها فعلا “الثورة التونسية”

الكاتب: نهى سعداوي

لم أشارك في الثورة، لم أخرج في المسيرات.. لم أصرخ ملأ صوتي لأخرج الكثير مما كان حبيسا في صدري ورأسي. حوصرت في البيت في قرية ريفيّة بعيدة عن الأحداث، لكنّي تابعت بأعصاب محروقة التّفاصيل ساعة بساعة. لم نكن ننام إلّا سويعات لنصحو بسرعة نحو شاشة التلفاز، حتّى الانترنت كانت مقطوعة في تلك الأيّام. بعد الثورة، لبست تهمة الثوريّة وقيل أنّني حاولت الإطاحة بهرم في السلطة ووزعت المناشير وأنا في البيت أمارس الحب مع السّرير، لأدفع ثمن ذلك لاحقا في تصفية لحسابات قديمة بين تيارين. المهمّ أنّي لن أنسى ولن أغفر، فلكلّ منا معاركه الصّغيرة وأنا إنسان حقود في علاقة بمن يستغلّ سلطته ليضربني دون أن أكون قد دست له على طرف رغم أنّه ككلّ يستحقّ الدّوس بالنّعال البالية.

لم أكن ناشطة في اتحاد الطلبة رغم قربي من الجناح القوميّ فيه. لم أنتمي لحزب ولا جمعيّة. لم أقرأ لماركس ولا سيف الدولة ولا آدم سميث ولا أيّة نظريّة ولن أقرأ غالبا. لكنّي كبرت في بيت كدح، زرعت فيّ جدّتي منذ الصّغر وعيا بالظلم والفقر والحاجة. وتعلّمت أن لا طريق أمامي غير أن أتعلّم وأن يكون عندي أنفة وكرامة فلا أتذلّل وأتمسّح وإن احتجت وجعت. وهذا لا يعني أنّ المحيط لم يكن مشوبا بخوف أو تجنّب لما من شأنه أن يلحق مضرّة، بل وكان أيضا ذكوريّا. محيط وجدت فيه الكتب وأشرطة شيخ إمام وأقلاما كثيرة ومذكّرات لخال يُقال أنّه ملحد، وأشياء أخرى كثيرة جميلة.

رغم كلّ شيء فإنّ الثورة تعنيني، كتونسيّة. كبرت دون أن أشعر أنّ لهذه الرّقعة الصغيرة التي أنتمي إليها واسمها “تونس” قيمة كبرى. ففي محيطنا المغاربيّ، كنت أشعر من حيث المساحة أنّ بلادي رقعة صغيرة أمام حجم ليبيا والجزائر والمغرب، غير أنّي كنت أعزّي نفسي بنكاتنا عن الليبيين فأشعر ببعض تفوّق مرفقا بجهل مطبق عن موريطانيا مثلا، أمّا الجزائر فهي العظيمة بكلّ ما سمعت عنها: الشهداء، عبد القادر الجزائري، وهران وأغاني الراي التي كانت تغزونا، الغاز الذي درسنا في الجغرافيا عنه وذاك الأنبوب الذي يمرّ من الجزائر عبرنا إلى إيطاليا.

في العالم العربي، كنت أشعر أنّ بلادا مثل العراق ومصر بلاد عظيمة. أسمع عن كلّ الذين تفتح لهم العراق أبوابها ليتعلّموا. أسمع عن الانضباط هناك والعمل والتّقدّم مقارنة بباقي العرب. أمّا مصر فهي الأدب والروايات التي فتحت عيوني عليها وهي الفنانون العظام الذين حفظت أسماءهم منذ الصغر وتعوّدت وجود أشرطتهم هنا وهناك. أظنّ أنّني لم أتعلّم تقدير بلادي، لا العائلة ولا المدرسة مرّرت لي فكرة “الوطنيّة” أو “الوطن العظيم” أو “الاعتداد بالوطن”. كنّا نتهرّب من تحيّة العلم ولا نحفظ النشيد الوطني خاصّة في المرحلة الثانويّة، رغم أنّي أذكر أنّ حارس المدرسة كان يحرص على أن نحضر تحيّة العلم صباحا بانتباه وبدون تشويش أو اضطراب في الصفوف. ربّما هي بداية الغضب في سنين المراهقة وغياب الشعور بتقدير الوطن لنا هو الذي جعلنا لا نشعر برابط مع العلم. رابط يحضر في المناسبات الرّياضيّة حين يمثّلنا المنتخب في مباريات خارج البلاد، فقد كنّا نبكي تأثّرا حتّى. ولعلّ هذا يعود لغياب أيّ انجاز علميّ أو ثقافيّ عنّا نشعر فيه بأنّنا نضيف للعالم.

أنا من جيل ولد في الثمانينات، في زمن كان الحكم البورقيبيّ يتداعى. جيل عاش “التحوّل المبارك” ودخل مدارس بن علي في التسعينات. كبرنا محاصرين مغيّبين، باستثناء من كان أهله مثقّفين منتمين فكريّا فلعلّه نجا. خرجنا في مسيرات في سنين الثانوي لم تكن تروقني لأنّها هروب من الدّروس أكثر من وعي بما نصرخ به، لكنّي اليوم أعتبرها سلوكا حميدا يتعلّم منه التلميذ أن يخرج في مجموعة ليعبّر عن رفضه أو انزعاجه. فهذا أرحم من كبت الغضب وخنق الأصوات. كبرت في ولاية/محافظة تُعرف بأنّها “نقابيّة” غير بعيد عن مدينة تُسمّى “قلعة النّضال”. جبنيانة في وولاية صفاقس، لطالما سمعنا حكايات عن مناضليها وعن شجاعتهم وتجرّئهم على “الحاكم”، والحاكم كلمة كانت تعني لنا جهة واحدة هي “البوليس”.

كبرنا والأهل يحذّروننا من “الحاكم”، كبرنا ونحن نتهامس عن زوجة الرّئيس “الحجّامة”. كبرنا ونحن نخاف الجدران ونحذر من الظهور في المسيرات وإن كانت “هوجة مراهقة”. كبرنا ونحن لا نعرف حتّى من هو بورقيبة تحديدا وما فعل وما حكم، فدروس التاريخ كانت عبارة عن صفحات نحفظها لنجيب كما يجب حين تطرح الأسئلة في الامتحان. فإذا ما انتهى الامتحان، تبخّرت المعلومات. ربّما نجوت بعض الشّيء من هذا لانّي كنت تلميذة “نجيبة”، تحبّ القراءة وتسأل كثيرا لكنّ هذا لم يجعل من وعيي يفوق أقراني بكثير ولم يجعلني “ثوريّة” مثل كثيرين ممن صادفت في الجامعة أو أصادفهم الآن.

أنا تونسيّة بدون تاريخ ثوريّ ولا سجلّ نضاليّ. أوقفوني مرّة بسبب غطاء رأسي وأمضيت تعهّدا في منطقة أمن أُحرقت إبان الثورة لأنّها كانت وكر أشرار يسجّلون على الطّلبة أنفاسهم. صرخت في مسيرات الجامعة ضدّ حضور “شارون” وعشت أيّاما رائعة مع فعاليّات ينظّمها “الاتحاد العام لطلبة تونس”. أيّام كانت هزيمة الطلبة الدساترة وصعود طالب “إسلاميّ” يُعتبر خبرا سعيدا للطالب اليساريّ والقوميّ. أنا تونسيّة من الطّبقة الكادحة رغم أنّ والدي كان “ادّعاء” موظّفا تابعا للدّولة وهو حارس مدرسة وعون تنظيف بها، ممّا حرمنا حقّ الحصول على منحة دراسة جامعيّة يحصل عليها أبناء المعلّم والأستاذ لأنّ نقابتهم ناشطة وفاعلة في هذا الإطار.

أنا تونسيّة كانت منذ الصّغر تُشحن وتُشحن، تُتابع وتُخزّن حتّى جاءت اللّحظة التي انفجر فيها كلّ التّونسيين الذين لا يملكون تاريخا “نضاليّا” ضدّ الحاكم، غير أنّي أراهم مناضلين. الثورة التونسيّة حالة استثنائيّة لأنّ من نهض فيها كان يُفترض أنّ صمته مؤبّد، فبينما الحاكم يترصّد الطلبة والنخبة المثقّفة، فاجأه “الهامش”. لن يستطيع أحد أن يتخيّل سعادتي أنّ من نهض يريد حقّا، ينشد الأفضل كان يشبه أبي وأمّي وجدّتي وجدّي وجيراننا. ربّما لأنّي كبرت والحقد الطّبقيّ في داخلي، ربّما لأنّي لست من النّخبة ولست متمكّنة من أدواتها، ربّما لأنّي كبرت منشدة بطولة وطامحة لأن أكون جزءً من إنجاز عظيم، ربّما لأنّي كنت أرفض ما أنا عليه وأتخبّط في سعيي لأكون غيره.

كبرت واقتربت أكثر من الفلسطينيّين وتعلّمت معنى الثورة، حتّى أنّي غرتُ من تاريخهم وحاضرهم رغم أنّهم تحت الاحتلال. كبرتُ وأنا أشعر بالضيق لأنّي من بلد لا مكان فيه للفقراء ولا انجاز، ليكبر ضيقي من كلّ العالم الذي لا مكان فيه للفقراء. كبرت لأحنق على الاحتلال الذي لم يقاومه الفقراء. فقد علّمونا في المدارس أنّ من أخرج المحتلّين “نخبة” تلبس الزيّ الافرنجيّ وتحسن قيادة السيارة والحديث بلغة المحتلّ. لم أجد أبي وجدّي وجدّتي في كلّ التّاريخ الذي درست. فكيف لا أتشبّث بثورة رأيتهم فيها؟

فليقل المهزوزون مؤامرة، فليقل ساكنو الأعالي “ثوّار البرويطة”، فليقل المنهزمون مسبقا “ثورة ماذا أيّها الأبله؟”، فليقل النخبويّون “انتفاضة هامش بلا دعامة فكريّة”.. فليحقّروا ما حصل ما شاؤوا. أنا تونسيّة استعادت ثقتها في نفسها وأهلها وشعبها والطّبقة التي إليها تنتمي بفضل الثورة. أنا تونسيّة زاد إيمانها بالوطن الكبير الذي انطلقت إليه شرارات الكرامة وتجذّر انتماؤها ولن أسمح لأيّ كان أن يُفقدني هذي الثّقة أو يسرق هذي الانجازات. الثورة التونسية ليس إشاعة، “إذا الشّعب يوما أراد الحياة، فلابدّ أن يستجيب القدر”.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نهى سعداوي

تونسيّة، متحصلة على الماجستير في اللسانيات الانجليزية. مهتمة بالترجمة ودعم المحتوى العربي. هاوية كتابة. مناصرة للقضية الفلسطينية، لقضايا العرب والمسحوقين أينما كانوا.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..