فنون

حكاية أغنية “وحدن” .. الأرض والفدائي واللاجئ

الكاتب: نهى سعداوي

وَحدُن بْيِبقُوا مِتِلْ هالغَيم العتيق
وحْدُن وْجوهُن وْعتْم الطّريق
عم يقْطعوا الغابي
وْبإيْدَهُن
متل الشتي يْدِقُّوا البِكي وْهنِّي عَلى بْوابي

هي أغنية يمكن وصفها بالمهيبة، فيها الشّجن والقداسة. تلمس روح من يسمعها وترسم مسحة حزن فخم. أغنية إنسانيّة جليلة من أغاني السيدة فيروز، صدرت ضمن ألبوم “وحدن” سنة 1979، من ألحان ابنها زياد الرحباني وكلمات الشاعر اللبناني طلال حيدر، ابن البقاع اللبناني/بعلبك، الذي يقارب الثمانين من العمر. “وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان”، واحدة من أجمل ما كتب الشاعر من قصائد باللهجة العامّيّة اللبنانيّة. وهو الذي كتب لفيروز أيضا، يا رايح صوب مشرّق ولمارسيل خليفة مجموعة من أجمل أغانيه: ركوة عرب ، سجر البن ، قومي اطلعي ع البال ، بيتي متل ورقة انحرق . كما كتب لبسوا الكفافي ومشوا التي غنّتها أميمة خليل وقبلها وديع الصافي.

طلال حيدر وفيروز

طلال حيدر وفيروز

يحاكي طلال حيدر بقصائده العامّيّة الطبيعة وأسرارها كما يراها هو، بعين الشاعر المتعمّق في جماليّات وتفاصيل الذات الإنسانية الرّيفية البسيطة وعلاقتها مع الطبيعة السحرية. ممّا يجعل نصوصه متقاطعة مع الذات الإنسانية الجمعية التي ترهف لصوت خرير الماء وزهر البيلسان، والعشب الذي يبزغ من وجه الجدران العتيقة. وما يؤكّد رهافة حسّ الشاعر، تفاعله مع آداء الفنانين كلماته بإبداع. قال للفنانة لارا عليان حين آدائها أغنية قومي اطلعي ع البال “أوّل مرّة أتمنّى أكون أنا الي عم أدّي مش أنا ال عم قول شعر”  ثمّ كرّر مرّتين قوله “أنا ع طول بقول الصوت بيسرق الكلام صارت القصيدة إلك مبروك عليكي” خلال آدائها وبعده.

وبالعودة لحكاية قصيدة وأغنية “وحدن”، التي لم أسمع أحدا غير فيروز يؤدّيها، يُقال أنّ الشاعر اعتاد شرب قهوته الصباحية والمسائية في شرفة منزله التي تطلّ على الغابة القريبة. ولفترة من الزّمن، كان يمرّ به ثلاثة شبّان في نفس موعد قهوته صباحا حين دخولهم الغابة ومساء حين عودتهم ويلقون عليه التحية. وكان يتساءل دائما عمّا يفعله هؤلاء الشباب في الغابة من الصباح إلى المساء، حتّى جاء اليوم الذي ألقى فيه الشبان التحية على طلال حيدر صباحا ودخلوا الغابة، دون أن يمرّوا عليه كما اعتادوا في المساء. قلق عليهم لكنّه لم يعرف ما حصل معهم إلّا بعد أيّام حين انتشر خبر عمليّة فدائيّة نفّذها ثلاثة شبّان في أراضي فلسطين المحتلّة. وهكذا جاءت كلمات القصيدة (بصوت الشاعر):

عُرفت تلك العملية بعملية “الخالصة“، التي نُفّذت في مستوطنة كريات شمونة، شمال فلسطين ، في صباح 11 نيسان 1974، وكان أبطالها من مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، وهم الفلسطيني منير المغربي (أبو خالد)، والحلبي السوري أحمد الشيخ محمود، والعراقي ياسين موسى فزاع الحوزاني (أبو هادي). حيث اقتحم الفدائيون الثلاثة مستعمرة كريات شمونة وسيطروا علي مدرسة وبناية مكوّنة من 15 شقة واحتجزوا رهائن اسرائيليين. طالب مقاتلو القيادة العامّة اسرائيل بالإفراج عن 100 أسير فلسطيني لكنّ طلبهم قوبل بالرّفض، لتقوم قوة اسرائيلية باقتحام المدرسة والمبنى وتندلع اشتباكات عنيفة مع الفدائيين. انتهت العمليّة بمقتل 18 اسرائيلي واستشهاد الفدائيين الثلاثة بعد تفجيرهم المبنى بعبوات ناسفة.

هذه القصّة ساهمت في انتشار الأغنية. ففوق جمال الكلمات، يمنحها آداء فيروز هالة من القداسة تليق بأبطال عمليّة فدائيّة. لكن حين سئل طلال حيدر في حوار في مجلّة الغد عن قصّة القصيدة، نفاها وقال: “(وحدن)… كُتبت لابن بلدي، “البقاع”، حيث تثلج عليه، ويبقى وحيدًا لا يرافقه سوى صوت عواء “الدّيب”، والرّياح.” القصيدة إذن للأرض، لسهل البقاع اللبناني الذي يقع بين نهرين، نهر الليطاني ونهر العاصي. والبقاع غير بعيد أو منفصل عن الصراع العربي الاسرائيلي فقد شهد معركة جوية بين سلاح الجو السوري والاسرائيلي عرفت بمعركة سهل البقاع سنة 1982، مني فيها الجيش السوري بالهزيمة وكان من نتائجها انسحاب القوات السورية من معظم مناطق لبنان. أمّا اليوم، ففي البقاع مخيّم للاجئين السوريين يضمّ حوالي 20 عائلة سوريّة في وضعيّة بائسة حسب تقرير لمنظمة العفو الدوليّة. “في خيام من القماش المتهرئ تهاوى بعضها أمام الرياح العاتية”، كما تقول الباحثة في حقوق اللاجئين والمهاجرين “خير النساء دهالا” يناسب اللاجئين في هذا المخيّم المنسي قول الشّاعر:

يا عشِب داشِر فوق هالحيطان
ضوّيت ورد الليل عَ كْتابي
برج الحمام مْسَوّر وْعـالي
هجّ الحمام بْقيْت لَـحـالي لَحالي

وسواء كانت القصيدة للفدائيّين الثلاثة أو لسهل البقاع فإنّ الجلال في كلماتها على قلّتها وبساطتها يُضاف إليه اللّحن الرحباني الدافئ وصوت فيروز القدسيّ، يجعلها -“وحدن”- أغنية كلّ سائر في طريق التحرير الذي قلّ فيه الرفاق، أغنية كلّ المُبعدين عن الوطن والهاربين من الموت بحثا عن سبيل حياة وأغنية كلّ إنسان لا يزال يحمل الهمّ الإنساني في زمن الدّم والموت الذي نحن فيه. هؤلاء..

وحْدُن بْيبْقوا
مِتِلْ زهْر البيلســان

المصادر: هنا هنا هنا هنا هنا هنا

تعليقات الفيسبوك

التعليقات

عن الكاتب

نهى سعداوي

تونسيّة، متحصلة على الماجستير في اللسانيات الانجليزية. مهتمة بالترجمة ودعم المحتوى العربي. هاوية كتابة. مناصرة للقضية الفلسطينية، لقضايا العرب والمسحوقين أينما كانوا.

اضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نشر..